رحم الله الدكتور محمد أحمد الرشيد، وزير التربية والتعليم السعودي الأسبق، وعمل قبل ذلك أستاذا جامعيا في جامعة الملك سعود بالرياض ثم مدير عام لمكتب التربية لدول الخليج العربية في عقد الثمانينيات من القرن الماضي؛ وكان سببا في التحاقي بكلية التربية؛ نتيجة مقابلة اذاعية أجريت معه في الإذاعة العمانية في عام 1982م، كنت أيامها أمتحن شهادة الثانوية العامة. أمضى محمد أحمد الرشيد سنوات من المجد الوظيفي والتألق المهني، وتلذذ بالجلوس على كرسي الوزارة لسنوات امتدت من عام 1994 حتى 2003، وبعد تركه للوزارة استمر يساهم بقلمه وفكره في تطوير الفكر التربوي المنفتح الذي يجمع بين الحفاظ على القيم والانفتاح على العصر ومجاراته في ايجابياته وانجازاته. كان أديبا ومفكرا أحيا اصدار مجلة المعرفة المتخصصة في التربية، وكنت كغيري أنتظر صدورها كل شهر وهي تفتح نوافذ العقل على ما يجري في العالم من ثورات تعليمية وتكنولوجية، ومن خلالها عرفت كيف نهضت بلدان كانت فقيرة ثم صارت غنية بفضل تركيزها على تطوير نظمها التعليمية. ولكن أغلى حكمة تعلمتها من الدكتور الرشيد هي تغريدته التي كتبها قبل وفاته في 23 نوفمبر 2013، ضمن سلسلة تغريدات على تويتر يقول فيها" دراستك الثانوية والجامعية وتخصصاتك كلها ستغدو هباءً من أول ليلة في قبرك !! ويبقى تلقين الصف الأول ابتدائي :من ربك ، مادينك ، من نبيك".
لقد خبر الرجل عزلة طبية قسرية نتيجة اصابته بمرض السرطان، ولأول مرة يجد الدكتور الوزير نفسه حبيس العزل الطبي،لا يرى في محبسه سوى الممرضات والأطباء، وقد عبر عن عالمه الجديد بقوله عبر تغريدته على التويتر:" في غرفة العزْل الصحي وجدتُ مجالا للتأمل واسعا، لا يصلني سوى صوت المؤذن، ونداءات الممرضات، كلٌّ منا يحتاج إلى ساعات من العزلة، جرّبوا". كانت تلك العزلة خلوة اجبارية مكنته أن يرتاد مجاهل نفسه وأن يستعرض ما قدّم وما أخرّ، ويقرأ سجل حسناته أمامه فيفرح، ويشاهد أخطاءه فيأسف ويحزن. وهنا بدأ المرحوم يعيد قراءة أوراقه ويعيد النظر في مواقف كثيرة، وتمنى لو يعود به الزمن الى الوراء ليصحح ويرمم الأخطاء، لكن عقارب الساعة لا تعود الى الوراء. واستمر يرى عالمين للوجود، عالم الدنيا وملهياتها وشهواتها وصلفها وبريقها وعالم الموت الذي صار قريبا جدا منه، يراه ويسمعه ويشعر به أثناء اشتداد الألم عليه وفي لحظات تجلي و صفاء النفس التي خاضت تجربة الابتلاء وتنتظر لقاء ربها. ضاق الخيط بين عالمين؛ عالم الشهادة وعالم الغيب. عالم المادة الذي تسجن فيه الروح في الجسد والأشياء وعالم الروح والحرية والتخلص من ضيق الدنيا إلى سعة لقاء الله سبحانه وتعالى والفوز برحمته.
وهنا لخص المرحوم العبرة العميقة التي يذكر بها الأحياء من بعده قائلا: لله وصيتي لكم اقرؤها بتمعن لنستشعر كم نحن نتقلب في نعم، فيارب ادمها علينا. ويبقى تلقين الصف الأول ابتدائي: من ربك؟ ما دينك؟ ومن نبيك؟

د. أحمد بن علي المعشني
رئيس مركز النجاح للتنمية البشرية