د.جمال عبدالعزيز أحمد ✽

(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (آل عمران ـ 164).
عندما تقرأ القرآن الكريم، وتمرُّ بآية تتحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وما أكثرها!، فإنك تتعجب من حديث القرآن الكريم عن مكانته، ومنزلته عند ربه، وحديث رب العالمين عن حبيبه، ومصطفاه، وتفخر بهذا الكتاب الكريم، كيف يتكلم عن أنبياء الله ورسله، هؤلاء صفوة الله من خلقه، اجتباهم، واصطفاهم؛ ليكونوا منارة هادية للعالمين، وسراجًا منيرًا للمتقين، ورحمة للخلق أجمعين، ونريد هنا أن نتوقف عند عطاءات آية من تلك الآيات الكريمات التي بيَّنت تلك المكانة، وأوضحت هذه المنزلة، وأبرزت تلك الحظوة التي كانت لسيد الخلق عند رب العالمين، وندور حولها بلاغيًّا وتربويًّا، ونتنسَّم عبقَ مسكها، وشذا رائحتها، ونقف على شيء من مكانته الكبيرة عند ربه:(منهم من كلم الله، ورفع بعضهم درجات)، يقول الله تعالى في مبعث رسوله الكريم (صلى الله عليه وسلم)، وأنه خير النعم، وأكرم المنن:(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (آل عمران ـ 164).
بدأت الآية الكريمة بالقسم المتمثل في:(لقد) فاللام هي اللام الواقعة في جواب القسم، والتقدير: وعزتي وجلالي لقد مننت عليكم بمبعث رسولي الكريم، فوجود اللام مُؤْذِنٌ بالقسم، وإن لم تكن اللام موجودة لكان الأسلوب أسلوب تحقيق فقط، مثل:(قد كان لكم آية في فئتين التقتا)، ونحو: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين)، ولكنْ لمَّا دخلت اللام تحوَّل من أسلوب تحقيق إلى أسلوب قسم، والله لا يُقسِم إلا على أمر عظيم، مؤثر في حياة البشرية والكون كله، و(قد) أداة تفيد التحقيق، فقد دخل هنا أسلوبان لتوكيد المعنى، وتعميق الدلالة: أسلوب قسم، وأسلوب تحقيق، وهو كذلك كناية عن عظمة ما يدخل عليه، والتعبير بالفعل الماضي (مَنَّ) يدل على أن ذلك كائنٌ في علم الله الأزلي، فقد قدَّر الله لنا أن يمن علينا بفضله بمبعث حبيبه، وهدايته إيانا، والمَنُّ هو الفضل الكبير، ومِنْهُ جاءت المنَّة، والمِنَنُ، أي النعمة، والنِّعم، والفاعل هو الله عز وجل:(مَنَّ اللهُ)، وإذا كان المن من الله فكيف يكون هذا المن؟!، إنَّ كل فعل أو مَنٍّ يُنسَب إلى صاحبه فكيف إذا كان المنُّ من خالق المنِّ، وواضعه في الكون، فالفاعل هنا دليل على عظمة الفعل (فالمن يتناسب مع صاحب المن، وهو أعلى معاني المن، وأسمى ألوان النعمة والفضل)، ثم تأتي (على) التي تدل على أن المنَّ قد كسا المؤمنين من أعلاهم إلى أدناهم؛ ومن أيمانهم وشمائلهم، وبحْرهم، وخليجهم، ومحيطهم؛ لكونها (أيْ: على) تدل على الاستعلاء والشمول، والهيمنة، والعموم، فقد أغرق المنُّ جميع المؤمنين، وعلاهم، وهيمن عليهم، ونستطيع أن نقول:(إن كل مؤمن بالله ورسوله مشمولٌ تبعًا بهذا المن، وداخلٌ تحته، وأن المنَّ قد علاه، وكساه، وغطَّاه)، وقوله:(المؤمنين) أل فيها موصولة؛ لدخولها على المشتق (مؤمنين) أي: الذين آمنوا، وحققوا الإيمان، ونهضوا له، وعملوا به، وأخذوه بحقه، واستعدوا لتبعاته، وقاموا بتكاليفه، وقدَّروه حقَّ قدره، ثم بيَّن الله تعالى حيثية مَنِّهِ بقوله الكريم:(إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم)، أيْ حيث بعث، والتعبير بالماضي (بعث) مريح، ويفيد أنه قد تحقق بالفعل، وأنه قد تمَّ، وحصل، ونزلتِ النعمة ودامت فيهم، والتعبير بشبه الجملة: (فيهم) يدل على أنه قد تغلغل فيهم، وانظرف بسيرته المطهرة في كل تصرفاتهم ومعاملاتهم وسلوكياتهم؛ لأن (في) تفيد الظرفية، أي أنه تداخل فيهمن وظهر في سلوكياتهم، ووَضَحَ في كل أعمالهم، وهم كذلك قد حكَّموه في جميع تعاملاتهم، وحركاتهم، وسكناتهم، فكأنَّ سيرته أحاطت بهم، وغلَّفتهم، وعشِقوها، وعشِقتْهم، فهم منظرفون فيها، متعشِّقون لتنفيذها، التصقوا بها، وعاشوا لها، معها، وبها، ودافعوا عنها، وذادوا عن حياضها، وربطوا مصيرهم بها، ونشرها، وكونه قد جمعهم في نفَس واحد، وضمير واحد:(فيهم) يدل على توحدهم، وحبهم، وعشقهم للسيرة المباركة، والتزامهم بها، وعملهم على نشرها، وتعليمها وتعلُّمها، وتنكير (رسولا) يعني عظمته، وأنه قد حصَّل كلَّ صفات، وسمات، وخصائص الرسالة المباركة، كما أن التنكير يفيد كذلك رفعته، وسمو منزلته، وقوله:(من أنفسهم) كناية عن أن إرساله ليس بِدْعا، وإنما هو من كمال وجلال ونعمة الله علينا؛ إذ لو كان ملكا لقلنا:(ليس من جنسنا، ولا نستطيع عمل ما يعملن فهو ملاك نوراني سماوي، ونحن بشر)، كما قال تعالى:(قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا) (الاسراء ـ 95)، فهو بشر، وفي الكلمة كناية عن رحمة الله بنا، وكناية عن عظمة الرسول الكريم، حيث اختاره الله رسولا؛ لكماله البشري، وتمام خلقه ليكون لنا قدوة، وإماما، و(من) هنا لبيان الجنس، وشبه الجملة:(من أنفسهم)، لبيان أنه بشر، وأن ما جاء به يمكن الالتزام به، وليس صعبا على أي بشر، وفي قراءة (من أنفَسِهم) أي من أغلاهم، وأرفعهم قدرا، وأسماهم مكانة، فهي من النَّفَاسة، وهي السمو والعظمة، ثم تأتي صفات أُخَر، تبين عمل الرسول الكريم، وخصائصه التي أكرمه الله بها، وهي:(يتلو عليهم آياته)، والفعل (يتلو) مضارع يفيد الاستمرار.