”بداية، لا يمكن ولا يصح أصلا ألا يستفيد الإعلام التقليدي من كل وسائل التكنولوجيا المتاحة والجديدة وفي مقدمتها الانترنت وحتى مواقع التواصل الاجتماعي. سهلت الانترنت في البداية الاتصال ونقل المعلومات بما خدم كل وسائل الإعلام التقليدي، من الإيميل ونقل المعلومات والصور الثابتة والمتحركة إلى نشر المحتوى بشكل أوسع عبر مواقع رسمية على الإنترنت للصحف والإذاعات والتلفزيونات.”
ــــــــــــــــــــــ
لا يمر يوم إلا وتجد في وسائل التواصل الاجتماعي أكثر من مثال على ما قد تبدو محاولات لتدمير الإعلام التقليدي الرئيسي، وللأسف يسهم الإعلام في ذلك أحيانا بتدوير تلك الأمثلة من الانترنت إلى منافذه. ما يثير فكرة "المؤامرة" لتدمير الإعلام أن بعض القوى أو الجماعات لديها ما تسمى "لجان الكترونية" تدير حسابات متعددة على مواقع التواصل الاجتماعي تقوم بفبركة صورة مثلا ذات دلالة لغرض سياسي أو تحريضي وتنتشر الكذب وتجلب تعليقات ومشاركات فيقوم منفذ إعلامي (موقع أو غيره) مرتبط بتلك الجماعة بعمل ما يبدو خبرا حول "صورة لكذا تنتشر بشكل واسع على الانترنت وتثير جدلا" .. أو ما شابه ذلك.
ليس في الأمر مؤامرة، فلا البريطانيون الذين طوروا الشبكة العنكبوتية الدولية ولا الأميركيون الذين أطلقوها فعلوا ذلك بهدف "تدمير الإعلام" ولا الداعون إلى "صحافة المواطن" يستهدفون القضاء على "الصحفيين المحترفين". ربما كان الانتشار الواسع للإنترنت، ثم تطوير مواقع التواصل الاجتماعي كمصدر للمعلومات والأخبار، أحد العوامل التي تؤكد ضرورة الحاجة إلى الإعلام التقليدي الرئيسي وأن العالم سيظل بحاجة إلى الصحفيين "المهنيين". فالطريقة الوحيدة المتاحة لكي يتمكن الجمهور العادي من "تنقية" إسهال المعلومات والفبركات على الانترنت هي "مصفاة" الإعلام التقليدي الرئيسي الوثوق والذي يمكن العودة إليه كمرجع لفصل الكذب عن الحقيقي. لكن ذلك يتطلب بالطبع تطوير الإعلام التقليدي وصحفييه لأدواته ومهاراته كي يمكنه القيام بهذا الدور وترسيخه، ليس فقط للخدمة العامة ولكن كذلك لضمان استمراريته وتعزيز دوره وسط التغيرات التي يفرضها انتشار الانترنت.
بداية، لا يمكن ولا يصح أصلا ألا يستفيد الإعلام التقليدي من كل وسائل التكنولوجيا المتاحة والجديدة وفي مقدمتها الانترنت وحتى مواقع التواصل الاجتماعي. سهلت الانترنت في البداية الاتصال ونقل المعلومات بما خدم كل وسائل الإعلام التقليدي، من الإيميل ونقل المعلومات والصور الثابتة والمتحركة إلى نشر المحتوى بشكل أوسع عبر مواقع رسمية على الإنترنت للصحف والإذاعات والتلفزيونات. ولا تقتصر الاستفادة على كون الانترنت وسيلة اتصال فحسب لاستخدامها كأداة مثل الهاتف والفاكس، بل إن كثيرا من احتياجات الصحفي للبحث والاستقصاء واستخدام "الأرشيف" أصبحت أسهل مع امكانية حفظ كل ذلك على "كمبيوتر خادم" بشكل رقمي. ولا حاجة هنا إلى التذكير بأن اختراع الإذاعة لم يلغ الصحف واختراع التلفزيون لم يلغ الإذاعة .. فكذلك لن تلغي الانترنت الإعلام ولا الصحفيين.
حتى الحديث عن "الصحفي المواطن" يجب أن يتم التعامل معه بشكل إيجابي من قبل الإعلام والصحفيين، لكن مرة أخرى مع التأكيد على معايير المهنية الأساسية بما يضمن الاستفادة وتعزيز مكانة الإعلام التقليدي كوسيلة "توصيل" معلومات موثوقة لدى الجماهير. فمتابعة مواقع التواصل الاجتماعي على الانترنت وغيرها من الصفحات والمواقع التي يستخدمها الناس لبث معلومات أو اخبار هي مصدر مهم للصحفي أيضا. لكن الفارق بين الصحفي "المحترف" والجمهور العادي أن كل ما يبث عبر الانترنت لا يمثل معلومات دقيقة يعاد بثها أو نشرها أو حتى التعليق عليها أو الإشارة إليها قبل تدقيقها وتمحيصها والتحقق منها ـ ولا يكفي هناك نسبتها إلى مصدر غير موثوق أو القول "تناقلت مواقع على الانترنت ..". لذا، سيظل الناس بحاجة للصحفيين لكي يقوموا بواجبهم الأساسي وهو تدقيق الخبر والمعلومة قبل بثها للجمهور.
هذا ببساطة هو الفارق بين أن تتصفح فيسبوك أو تويتر أو حتى موقع مدونة لشخص "ناشط" يخلط بين الرأي والمعلومة ويجتزئ الحقائق ليصل إلى استنتاجات مبنية على قناعات مسبقة وبين أن تتصفح موقع صحيفة معروفة أو محطة إذاعة أو تلفزيون. فالمنفذ الإعلامي التقليدي يخشى على مصداقيته، لذا يوظف صحفيين محترفين يدققون ما ينقلونه لمتابعيه من معلومات وأخبار. ويتقيد المنفذ الإعلامي التقليدي بمعايير ولوائح لعدم تعرضه لملاحقات قضائية في حالة الكذب أو التحريض او تشويه السمعة. فالمنفذ الإعلامي التقليدي يمكن الرجوع عليه في حالة تضرر من يتناوله الخبر، حتى لو على موقعه الالكتروني، على عكس مواقع التواصل الاجتماعي وحسابات النشطاء التي حتى وان تم تدقيق مصدرها والوصول إلى شخص فإن قوانين ولوائح النشر عبر الانترنت ما زالت فضفاضة إلى حد كبير. ثم هناك عملية "التدوير" للأخبار والمعلومات ـ أي النقل عن مصدر مشكوك في صدقيته ثم النقل عن النقل إلى أن تصل القصة إلى منفذ إعلامي تقليدي ـ التي تفتح باب "تمييع" جودة العمل الصحفي المهني. وهذه بحاجة لانتباه الصحفيين أكثر وتطوير مهاراتهم للتعامل معها بطريقة نقدية أشد.
سيظل الناس إذا بحاجة للصحفيين والإعلام التقليدي، لكن على الصحفيين ألا يقعوا فريسة "الاستسهال" من ناحية أو العداء التام للإنترنت من ناحية أخرى. فليس في الأمر مؤامرة على الإعلام، إنما هي مهارات جديدة لمعرفة كيف توظف تطورات التكنولوجيا لخدمة مهنتك وتعزيز الثقة بها لدى جمهور يحتاجها الآن أكثر من زمن مضى لم يكن يتوفر فيه على مصادر هائلة للمعلومات لا يعرف أيها يصدق وايها يتشكك فيه.

د.أيمن مصطفى
كاتب صحفي عربي