كانت الطفلة سماء تتصرف بارتباك، وتظهر سلوكا شاردا داخل الصف، تأتي إلى المدرسة حزينة، وتجلس في مؤخرة غرفة الصف متوجسة ومتوترة، وغالبا ما تكون غير مكترثة لما يجري داخل الصف. لم تكن معلمتها تكتم استياءها منها، فكانت توبخها على مرأى ومسمع من زملائها. وبمرور الأيام ترسخ الغباء والبلادة في عقل الطفلة سماء التي كانت تتلقى تعليمها في الصف الرابع من التعليم الأساسي الحلقة الأولى. استجابت قناعاتها ومعتقداتها وعقلها لهذا الحكم القاسي، وصارت سماء فعلا بطيئة التعلم في أكثر من مساق دراسي. وفي ذات يوم غابت تلك المعلمة فقامت معلمة أخرى بتقديم درسها في الرياضيات وقد كانت تلك المعلمة تمارس أساليب التحفيز اللفظي، فبدأت حصتها بتشجيع سماء وزملائها، فاستهلت تقديم درسها ببناء علاقة الحب والاحترام مع التلاميذ، وعبرت عن اهتمامها بكل تلميذ من خلال الاتصال البصري والابتسامة والاتصال الكفي مع كفوف الأطفال، وسرد القصص واجراء المسابقات الرقمية وتارة كانت تكافئهم بنشيد وتوزيع جوائز بسيطة من حلويات ولعب وغيرها. وخلال حصتها تحول الصف الخامل الى ساحة تنافس وحيوية وحركة، وكان تركيزها على سماء ملفتا؛ ما حفزها أن تظهر تميزا وانتباها جعلها تحظى بالتصفيق أكثر من مرة. وخرجت المعلمة عند انتهاء وقت الحصة دون أن تدري بأنها قد فجرت ينابيع الثقة بالنفس وتقدير الذات لدى تلك الطفلة الصغيرة، التي استمرت تتفاعل ذهنيا ووجدانيا مع كلمات التشجيع والتحفيز التي أمطرتها بها أثناء زمن الحصة. وخلال فترة قصيرة تحسن مفهوم سماء لذاتها وتغيرت نظرتها الى نفسها، وبقي ارتباطها وتواصلها مع تلك المعلمة مستمرا؛ فانضمت الى جماعة أصدقاء الرياضيات التي تشرف عليها تلك المعلمة المحفزة. صارت سماء تعشق الرياضيات، كما تطور تحصيلها في بقية المساقات، وخلال فصل دراسي واحد استطاعت التلميذة سماء أن تعبر الحدود العقلية من الغباء الى الذكاء والنباهة، وتغيرت نظرتها إلى نفسها وتحسن مفهومها لذاتها، فانعكس ذلك التغيير على تفكيرها وطريقة عمل عقلها وظلت دافعيتها تتعزز ذاتيا يوما بعد يوم حتى صارت من بين أميز التلاميذ في المدرسة.
في مدرسة أخرى عمل معلم سوداني يدعى هاني على تغيير الحدود الذهنية لتلاميذ الصف الخامس من التعليم الأساسي الحلقة الثانية، وقد كان زملاؤه المعلمين يطلقون على ذلك الصف " عاهات المدرسة" لكن قيامه ببعض التغييرات على بيئة الصف وإعادة ترتيب شكل القاعة من شكل تقليدي يجعل الاتصال بين المعلم والتلاميذ رأسيا، إلى شكل دائري يتيح التواصل المباشر مع كل طفل، وممارسة أساليب تدريس حديثة يوظف فيها الدراما والمسرح ولعب الدور والعصف الذهني وغيرها، وأيقظ بذلك عفريت التفوق لدى الأطفال واستطاع في غضون شهرين أن يبني عقلا جمعيا لتلاميذ ذلك الصف، فتحولوا من " عاهات" إلى نماذج متميزة علميا وأخلاقيا. وكان التلميذ عبد الله أفضل دليل على تغيير الحدود، فقد تحول من تلميذ مشاغب ومفرط النشاط الى تلميذ نشيط ومتفاعل، ومن انسان محطم نفسيا وتربويا إلى تلميذ إيجابي داخل وخارج قاعة الصف، وهجر جماعة الأقران السلبيين وصار يمارس التفوق الذهني والدراسي، وكنت بنفسي اشاهد ذلك التحول الرائع يحدث أمامي.
إن المعلمين والآباء والأمهات والمسؤولين يستطيعون حقا أن يغيروا الحدود العقلية لمن حولهم؛ بما يجعل المستحيل ممكنا ويحول وهم الغباء إلى ذكاء، والخمول الى نشاط والمألوف الى ابداع، فقط من خلال احداث بعض التغيير في أساليب التواصل.

د. أحمد بن علي المعشني
رئيس مكتب النجاح للتنمية البشرية