منذ بداية النهضة المباركة التي أطلقها حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ كان حادي المسيرة ـ أعزه الله ـ على يقين من اللحظات الأولى بأن حركة التنمية التي ينشدها من أجل أبناء هذا الوطن ومستقبل النهضة تحتاج إلى درع واقية من أية انحناءات وتموجات أو منعرجات تحرف المسيرة المظفرة عن مسارها، ومن ثم كان النهوض بمنظومة القوانين والتشريعات والأجهزة القضائية والرقابية وغيرها أمرًا ضررويًّا ومهمًّا لحماية التنمية والمكتسبات والمنجزات الوطنية، وحماية المال العام من أي انتهاكات أو ممارسات غير شرعية، من أجل حفظ حقوق الأجيال الحالية والمستقبلية في هذه التنمية والمنجزات لكونه حقًّا عامًّا ثابتًا لا يجوز المساس به تحت أي طائلة أو مصلحة خاصة أو نزعة تسلطية.
وما من شك أن قضية المال العام وكيفية تجنيبه الإساءة في الاستخدام والهدر أو طرق التحايل للاستيلاء عليه تعد من القضايا التي تشغل الكثير من الدول، وتزداد القضية أهمية وتتوسع دائرة الاهتمام بها في ظل وجود عدة متغيرات تتنوع بين الزخم الاقتصادي والمالي وكثرة المشاريع والمخصصات، وبين ضعف الرقابة المالية والإدارية، وكذلك تدني الأجور وضعف القوانين الرادعة. وتتعدد صور آفة الفساد باستغلال الوظيفة والمنصب أو التحايل من أجل الاستيلاء على المال العام بصورة مباشرة أو غير مباشرة كأن يكون في صورة مشاريع وصفقات يتم إرساؤها من قبل صاحب الوظيفة والمنصب المسؤول إلى الجهة المنفذة لاعتبارات الصداقة والصحبة أو القرابة أو المصلحة الخاصة بحيث تكون المؤسسة أو الشركة المنفذة مملوكة من الباطن لهذا المسؤول، أو يقوم بترسيتها مقابل رشوة إما عينية أو مقابل مصلحة في مكان ما، وكذلك كأن يكون هناك اتفاق على اعتماد مبلغ مالي ضخم للمشروع لاقتسام الزائد بين الطرفين، في حين أن المبلغ لإنجاز هذا المشروع هو أقل بأضعاف، وذلك من أجل تمرير مناقصة المشروع تبدو في الظاهر أنها قانونية، بينما في الباطن غير ذلك.
والمعاناة من الفساد تكون أكبر حين تنتشر صور الإساءة والتحايل على المال العام بشكل واسع وعدم اقتصار هذه الإساءة والتعدي على الموظف المسؤول وحده، وإنما تتعدى لتشمله وتشمل الموظف غير المسؤول، وذلك حين يرى الموظف البسيط مسؤوله يعتدي على المال العام في غياب تام لمظاهر الرقابة المالية والإدارية وإنفاذ القوانين.
إن آفة الفساد ليست مختصة بمجتمع أو دولة، وإنما هي آفة تعاني منها جميع المجتمعات والدول حتى تلك التي تتشدق بالديمقراطية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان، وإن مكافحة هذه الآفة ومحاربة الفساد المالي والإداري بكل صوره ومظاهره يعتبر أحد محركات التنمية، وأحد مظاهر النظام الديمقراطي وبناء المؤسسات وتفعيلها وتفعيل نظام اقتصاد السوق وعنوانًا عريضًا للنزاهة والشفافية، كما أن إدراك أفراد المجتمع كلهم من مسؤولين إلى موظفين وعمال إلى غير ذلك، لمخاطر الفساد والتعدي على المال العام ولآثاره السلبية على التنمية وعلى العلاقات الإنسانية وسمعة المجتمع والدولة، ووعيهم بالقوانين والتشريعات التي تجرم الإساءة والتعدي والتحايل على المال العام، وردع المعتدي وتبليغ عن حالات الفساد، إنما يقدمون بذلك أروع صور التحضر الإنساني، ويقدمون للعالم مجتمعًا متحضرًا شفافًا حرًّا ناصعًا.
ولهذا كله، جاء "المؤتمر الثاني لمكافحة الفساد في إدارة المشاريع" الذي انطلقت فعالياته أمس ويختتم اليوم، ومن أجل التعريف بأنواع وأشكال الفساد وطرق مكافحته خاصة فيما يتصل بإدارة المشاريع. كما أنه جاء معبرًا عن عزم حكومة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ على مكافحة الفساد بشتى صوره وأشكاله، وما قانون القضاء العسكري، وقانون الرقابة المالية والإدارية للدولة، وقانون حماية المال العام وتجنب تضارب المصالح، وكذلك تعديل بعض أحكام قانون العمل، بموجب المراسيم السلطانية السامية أرقام (113،112،111،110/2011)، بالإضافة إلى هذا المؤتمر سوى دليل على هذا العزم وصدق التوجه.