د.جمال عبد العزيز أحمد:
.. ولكنَّ القرآن الكريم تحدَّى هنا أبا لهب، وذكر تهديده بكل وضوح، وأظهر وعيده بدخول النار بكل بيان وأنصع أسلوب، وأنتم لا تعرفون وقع ذلك على أبي لهب، وهياجه هنا وهنا من جراء سماع ذلك يتلى مساءً وصباحاً، غدوًا ورواحًا، غير أنه لم يستطعْ فعل شيء، ولا فكَّر لحظة في الإيمان بالله ورسوله، وكان عندئذ سيضرب الإسلام في مقتَل، لكنَّ الله عز وجل علم في سالف علمه، وكامل قيوميته، وسابق أزليته أنه لا ولن يؤمن، ولن تحين أيُّ لحظة إيمانٍ في قلبه، توقظه، وتنبهه، وظل على كفره وعناده حتى لقيَ حتفه، هو وامرأته حمالة الحطب التي لم تهدأ لحظة في أذى الرسول الكريم، ولا سكنتْ جوارحها يومًا في حمل الحطب الذي هو رمز الوقيعة والفتنة وحرق المجتمع من كلامها، وكذبها، ونفاقها، وخداعها، وتخرصاتها، فقد جاءت الجملتان متماسكتين تماسكًا عضويًّا مكينًا، الأولى دعاء عليه، والثانية تأكيد لهذا الدعاء، ولكن دعاء عليه كله لا على يديه فقط، بأن يهلك ويخسر، ويذهب من الحياة غير مأسوف عليه، ولا متحزَّنًا على فقدانه وموته.

ثم يلي ذلك قوله تعالى عن السبب والعلة التي لأجلها تبَّتْ يداه، وتب هو كله بقوله سبحانه: (ما أغنى عنه ماله وما كسب)، وهنا (ما) لها توجيهان، الأول أن تكون نافية غير عاملة، تؤدي فقط مهمة النفي، أيْ: لم يغن عنه ماله شيئا، ولا أنقذه، ولا أخرجه من جهنم، والثانية: أن تكون استفهامية، والمعنى أيُّ شيء من ماله وما كسبه أغناه عن انتقام الله له، وإهلاكه؟، وسواء أكانت (ما) نافية أو استفهامية فقد أدَّتْ دورًا كبيرًا في قضية تماسك النصِ، وتداخل نسيجه، وتلاحمه، وشدة ارتباطه، فقد جاءت الجملة تعلل، وتبين، وتفسر لم السبب في إهلاكه وبواره وخساره، وانتهائه؟ وأوضحت أنه ما أغناه عنه ماله شيئا (نافية)، أو أيُّ شيء أغناه عن تدميره ودخوله جهنم؟، و(أغنى) فعل ماض، وفاعله هو(ماله)، والمفعول محذوف (أي شيئا)، والواو لعطف المفردات، أي ماله والذي كسبه: سواء منه، أو ما كسب أيْ من أولاد، ونحوهم من الممتلكات الأخرى، فالواو مَتَّنَتْ بالعطف، وشدَّتْ، ووثقت عرى التراحم والتماسك فيما بينها، وهو ارتباط المعطوف بالمعطوف عليه، و(ما) إما موصولة وما بعدها من فعل وفاعل مستتر جوازًا ومفعول محذوف هو جملة الصلة، أي: والذي كسبه كله، فهو كلام مترابط متشادٌّ، متلاحم، وإما أن تكون (ما) مصدرية ، ويكون المعنى ما أغنى عنه ماله وكسبه شيئًا، ثم توعدته، وهو في كامل حريته، وهو في حياته يسمع، ويرى، ومعه اختياره الكامل:(سيصلى نارًا ات لهب)، والسين للتأكيد من جانب، وللمستقبل القريب من جانب آخر، أيْ: أن تصليته النار قريبةٌ له، وأقرب من شراك نعله، ولم يقل:(سوف يصلى)، بل عاجله بأن ذلك حاصل، وسريع، ومتحقق، وملازم له، والفعل المضارع (يصلى) يفيد الاستمرار، أيْ: أنه في النار مَصْلِيٌّ فيها على الدوام والاستمرار لا ينفك منها، ولا يزول عنها، والفاعل مستتر جوازا تقديره هو، و(نارا) مفعول به، وهو منكَّر، لتذهب النفس في تصوره كلَ مذهب، فهي نار لا يعرف خطورتها إلا الله، ونار لا تطاق، ولا يطيقها البشر، وهي (ذات لهب) أيْ: ألسنتها مشرعة في السماء، تلتهب، وتذيب كل من يُلقَى فيها التهامًا، ولا يعرف خروجًا منها، ولا هروبًا عنها، بل هي تبتلعه، وتذيبه في أتونها المَوَّار، ولهيبها المستعر الجبار، واختيار (لهب) لمشاكلة اسمه أبي لهب؛ إمعانا في إذلاله، وتحقيره، فالنار تعرفه، وتكون عليه ذات لهب، حتى يعرف قدر الرسول الكريم، وأن ربه معه، لن يتركه لمثل هؤلاء الفجرة الآثمين الذين يصدون عن سبيل الله، ويقفون حجر عثرة أمام المؤمنين، وكل من يرغب في الدخول إلى دين الله طواعية، وعن محض حب، وبكامل إرادة، وتمام رغبة، واختيار، و(نارا) مفعول به وصفت النار بأنها ذات لهب، أي صاحبة لهب، وكلٌّ من الصفة والموصوف مرتبطٌ أيما ارتباط بأخيه، وكذلك كلٌّ من المضاف والمضاف إليه هما كالشيء الواحد، شديد الترابط، والتماسك، وكأنه بناءٌ محكَم السبك، قويُّ الحبك، بديعُ المنظر، قيد النظر، ثم تأتي الواو التي يمكن أن تكون لعطف المفردات، أي يصلى نارا ذات لهب وامرأته كذلك تصلاها معه، أو أن الواو لعطف الجمل، فتكون جملة:(وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد)، معطوفة على سابقتها حيث إن واو عطف الجمل تعطف وتمتن بهذا العطف الجملة المعطوفة عليها؛ وذلك بأن تتماسك مع الجملة قبلها المعطوف عليها برباط متين، وحبل قوي مكين، والهاء مضاف إليه يربط الجملة بسابقتها، وفيه توجيه على أنه مبتدأ أول.

* جامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية.

[email protected]