محمود عدلي الشريف:
كل ما ترى عينك مما خلق الله تعالى في هذه الدنيا يدعو إلى التدبر والتأمل والخشوع لله تعالى ، والخوف من جلاله والرهبة من كماله فيضاءعقله وينار فؤاده ويهرع من عجب ما يراه إلى عفو ربه ورضاه، ولهذا دعانا ربنا إلى التأمل والتفكر، وهذا هو سبيل النجاة فلا نجاة إلا في التمسك بحبل الله والاستمساك بالعروة الوثقى، وخلاف ذلك تعب وجهد ومشقة، خاصة إذا تعلق القلب بأمر بأمور الدنيا واشتد تمسكه به، حتى صار لديه مرض من أمراض القلوب، نعوذ بالله منها ونسٍأل الله الشفاء من كل مرض ما ظهر منه وما بطن، يقول الإمام الرازي في تفسيره: (فاعلم أنه تعالى أكرم نبيه إبراهيم بهذا الوصف حيث (إذ جاء ربه بقلب سليم) (الصافات ـ ٨٤)، القلب السليم ففي ثلاثة أوجه، الأول: وهو الأصح أن المراد منه سلامة القلب عن الجهل والأخلاق الرذيلة، وذلك لأنه كما أن صحة البدن وسلامته: عبارة عن حصول ما ينبغي من المزاج والتركيب والاتصال، ومرضه: عبارة عن زوال أحد تلك الأمور، فكذلك سلامة القلب: عبارة عن حصول ما ينبغي له وهو العلم والخلق الفاضل، ومرضه: عبارة عن زوال أحدهما، فقوله:(إلا من أتى الله بقلب سليم) أن يكون خاليًا عن العقائد الفاسدة والميل إلى شهوات الدنيا ولذاتها فإن قيل فظاهر هذه الآية يقتضي أن من سلم قلبه كان ناجيًا وأنه لا حاجة فيه إلى سلامة اللسان واليد جوابه:(أن القلب مؤثر واللسان والجوارح تبع، فلو كان القلب سليمًا لكانا سليمين لا محالة، وحيث لم يسلما ثبت عدم سلامة القلب، والثاني: أن السليم هو اللديغ من خشية الله تعالى، والتأويل الثالث: أن السليم هو الذي سلم وأسلم وسالم واستسلم والله أعلم) (مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير 24/ 517 بتصرف واختصار).

وهذا لا يمنع أن يحب ما أعطاه الله تعالى من فضله من مال وولد، ولكن بدون مبالغة فـ(حب المال) مما أودع في غرائز البشر واختلط بلحمهم ودمهم، وسر هذا أنه وسيلة إلى جلب الرغائب، وسبيل إلى نيل اللذات والشهوات، ورغبات الإنسان غير محدودة، ولذاته لا عدّ لها ولا حصر، وكلما حصل على لذة طلب المزيد منها، وما وصل إلى غاية في جمع المال إلا تاقت نفسه إلى ما فوقها، حتى لقد يبلغ به النهم في جمعه أن ينسى أن المال وسيلة لا مقصد فيفتنّ في الوصول إليه الفنون المختلفة، والطرق التي تعنّ له، ولا يبالى أمن حلال كسب أم من حرام؟، روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قوله (صلى الله عليه وسلم):(لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى أن يكون لهما ثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب)، (ولقد أعمت فتنة المال كثيرًا من الناس فشغلتهم عن حقوق الله وحقوق الأمة والوطن، بل عن حقوق من يعاملهم، بل عن حقوق بيوتهم وعيالهم، بل عن أنفسهم، ومنهم من يقصر في النفقة على نفسه وعياله بالقدر الذي يزرى بمروءته، فيظهر بمظهر المسترذل بين الناس في مأكله ومشربه وملبسه، ومنهم من يثلم شرفه ويفتح ثغرة للطاعنين والقائلين فيه بالحق وبالباطل لأجل المال، ومن ثم قالوا:(المال ميّال) (تفسير المراغي 3 /110 بتصرف يسير)، فكيف يطيب لهذا ما هو عليه، ولكنها الغفلة التي أمرضت قلبه وجعلت على بصره غشاوة ، ولكنه التعلق بالدنيا فـإن كثرة المال أمر محبوب مطلوب زين للناس حبها، ومحبة المال الكثير قد أودعت قلوب الناس؛ لأنهم رأوا أنه السبيل إلى طلب ملاذ هذه الحياة، فلا يجد غايته من النساء إلا ذو مال، ولا غايته من إشباع الحاجات إلا ذو المال؛ ولقد قالت عائشة ـ رضي الله عنها:(رأيت ذا المال مهيبا، ورأيت ذا الفقر مهينا)، وقالت ـ رضي الله عنها ـ أيضًا: (إن أحساب ذوي الدنيا بنيت على المال)، وإن محبة المال لم تكن في أول الأمر لذات المال، ولكن لأنه ذريعة لغيره من ملاذ الحياة ومطالبها، ولكن بتوالي الأزمنة نسى كثير من الناس الغاية، واتجهوا إلى الوسيلة فصارت في ذاتها غاية، وأصبح المال يطلب لأنه غاية في ذاته، كما هو الشأن في كل وسيلة تؤدي إلى أمر محبوب مؤكد المحبة وهي مؤكدة التوصيل، ولذلك صار المال مطلوبًا، وطلبه كالأمر الفطري، قد روى أن أبا لُبابة:(كان بينه وبين بني قريظة صلات، فلما حكَم النبي (صلى الله عليه وسلم) سعد بن معاذ فيهم أشار إليهم أبو لبابة بألا يحكِّموه، وأشار إليهم بأن حكمه الذبح، فأحس بأنه خان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فربط نفسه في سارية المسجد، ونذر ألا يأكل حتى يحله رسول الله، فمكث تسعة أيام خر على أثرها مغشيًا عليه فتاب الله تعالى عليه، وحل وثاقه فقال: إنه نذر أن ينخلع من كل ماله، إن تاب الله عليه، فاكتفى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بثلث ماله، وروى أنها نزلت عندما أرسل حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين يخبرهم بسير النبي (صلى الله عليه وسلم) وقد أمرهم النبي (صلى الله عليه وسلم) بالكتمان، فخان المسلمين بهذا الإخبار، وإن خيانة الأمانة سببيا الهوى، ومسير الهوى ودافعه فتنة المال والولد، ولذا قال تعالى ذاكرًا سبب الخيانة ليكون الحذر) (زهرة التفاسير3/ 1137).

وإليك أخي القارئ الكريم بعضًا من تلك الفتن لتحذرها حتى نضع أيدينا جميعًا على موضع الداء نسأل الله الشفاء .. (فمن أهم الأمور التي تأتي الفتنة من قبلها (فتنة الجاه) كما في قصة أصحاب الكهف، و(فتنة المال والرجال) كما في قصة صاحب الجنتين، و(فتنة العلم) ـ ولو بشكل خاص ـ كما في قصة موسى والخضر ـ عليهما السلام، و(فتنة الأسباب والعلم التجريبي التطبيقي) كما في قضية ذي القرنين إلى غير ذلك من حقائق هذه الأمور والأضواء الكاشفة على كل أسباب الفتن، وقلب المؤمن الميزان الحق لمعرفة الحقائق من الأباطيل، والصدق من الكذب والصحيح من الزيف) (مباحث في التفسير الموضوعي، ص: 178).

و(كما أن المال فيه سم ناقع ودرياق نافع فكذلك الجاه، وكما أن كثرة المال يلهى ويطفى وينسي ذكر الله والدار الآخرة، فكذلك كثرة الجاه بل أشد وفتنة الجاه أعظم من فتنة المال، إذا حملته كثرة المال وكثرة الجاه على مباشرة ما لا يجوز، نعم انصراف الهم إلى سعة الجاه مبدأ الشرور، كانصراف الهم إلى كثرة المال، ولا يقدر محب الجاه والمال على ترك معاصي القلب واللسان .. وغيرها، وأما سعة الجاه من غير حرص منك على طلبه ومن غير اغتمام بزواله إن زال فلا ضرر فيه، فلا جاه أوسع من جاه ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) وجاه الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من علماء الدين) (إحياء علوم الدين 3/299 باختصار).

وإليك هذا المثل العظيم الذي ضربه لنا سيدنا أبوبكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ منه نفسه، فقد (صبح الصديق ذات يوم بعد أن ولي الخلافة وعلى يده أبراد، والبرد: هو الثوب المخطط، يعني: أخذ أثواباً لبيعها في السوق كعادته حتى بعد أن أصبح خليفة، فلقيه عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فسأله: أين تريد؟ قال: إلى السوق، قال عمر: تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم أولادي؟ سبحان الله! يده على بيت المال بكامله لكنه يقول: فمن أين أطعم أولادي؟ فأشار عليه عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وأرضاه ينزل إلى السوق وهو خليفة لكي يتاجر حتى يطعم أولاده! فعف الصديق رضي الله عنه وأرضاه فعفت الرعية في زمانه ـ رضي الله عنه) كتاب (الصاحب والخليفة أبو بكر الصديق 5/3 بترقيم الشاملة آليا) .. نسأل الله تعالى أن يشفينا من داء ظاهر وباطن حسي ومعنوي.



*[email protected]