د.جمال عبدالعزيز أحمد :
.. و(حمّالةَ) بالنصب منصوبة على الذم، أي: أذم وألعن وأخص بعذابي حمالةَ الحطب، هذا توجيه النصب، وتوجيه الرفع يكون على الصفة لـ(حمّالة) المرفوعة هي الأخرى إما صفة لامرأته، وإما خبرًا لها أيْ: امرأته هي حمّالة الحطب، و(حمّالة) صيغة مبالغة أيْ: أن دأبها وشأنها طوال عمرها أنها موقدة للفتنة، مؤججة لها في كل مكان في المجتمع، تمشي بالنميمة هنا وهنا، وتؤلب المجتمع على الرسول الكريم كذبًا وافتراء، والتوجيه الثاني للرفع أنها صفة لـ(امرأته)، و(في جيدها) شبه جملة في محل رفع خبرًا للمبتدأ الثاني بعده، وهو (حبل من مسد)، حيث تقدم الخبر شبه الجملة جوازًا، لكون المبتدأ منكرًا موصوفًا (حبل من مسد)، و(حبل) مبتدأ ثان مؤخر جوازًا بسبب تخصيصه بالصفة، والجملة (في جيدها حبل من مسد) في محل رفع خبرا للمبتدأ الأول، فـ(امرأته حمالة الحطب) مبتدأ أول، و(حبل من مسد) مبتدأ ثانٍ مؤخر، و(في جيدها) خبر المبتدأ الثاني مقدم جوازًا، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل رفع خبرًا للمبتدأ الأول، وتشعر هنا بالتداخل، والترابط، والتماسك مع كل تلك الأعاريب، والتوجيهات النحوية، وكل من المبتدأ والخبر قد ترابطا عضويًّا مع بعضهما لأنهما يشكِّلان المعنى المراد، والدلالة المقصودة، وتقديم الخبر هنا مشعر لها بالمهانة حيث كانت تعتد بطول جيدها، وهو مما تمتدح به المرأة عند العرب، فهذا الجيد المُستعلَى به، والتي تتكبر من خلاله ستسحب منه كالبعير، ولكن الحبل هنا من ليف جهنم، يقطع جزئيات العنق، ويفتتها تفتيتا لأنه من ليف ناري، مصنوع من نار جهنم الشديدة الألم، التي تذيب الحديد في ثوانٍ معدودات، فكيف بجيد من لحم، وعظام؟!، لا شك أنها كانت تحترق عندما تستمع إلى هذا التهديد الشديد، والوعيد الأكيد، وهو كناية عن احتقارها، ومهانتها، فهي تسحب منه كما تسحب الأنعام .. وغيرها من الحيوانات، ومن (مسد) أيْ: من ليف شديد صعب، يقطع ما لَفَّ حوله، والصفة ترتبط بالموصوف أشد ارتباط، وأقواه، ولعلك لاحظت تماسك العبارات جميعًا، وتلاحمها في إطار من التناغم عجيب، وكل من الآخر قريب قريب، فالمبتدأ ينادي على خبره، وما تقدم من خبر يعود فينظر على مبتدئه المتأخر، وكلٌّ من الصفة تتلاقى مع موصوفها، والمنكَّر في حاجة ماسة لما يصفه، ويبرزه:(حبل من مسد)، والسورة كلها كما بدتْ أمامك ومن خلال التحليل قد تماسكت جملها، وتلاقت عباراتها، وارتبطت بسبب قوي، ومعنى صفِيٍّ، وقد ورد فيها أن معظمها أفعال ماضية، إلا الفعل (سيصلى) المتحدى به، والذي أخذ المستقبل القريب، وتتابعت فيها حروف المعاني الرابطة بين الجمل، سواء أكانت للعطف بنوعيه: مفردات، أو عطفًا للجمل، وسواء أكانت للمستقبل كالسين، أم لغيره من المستقبل البعيد، وسواء أكانت للنفي أم للاستفهام، أم للجر، و(في) تفيد الظرفية، فالليف الدائر حول عنقها قد غاص، وغار في أجزاء عنقها، وحفره حتى إنك لا تكاد تراه بسبب انظرافه في جيدها، فلا يراه الرائي، وإنما يرى آثاره التي هي دم يسيل، وآهات تصدر، وآلام تتوالي، وصيحات منها تتواصل، وتتعالى، وسواء ارتبطت ارتباط الصفة الموصوف كما أوضحتُ، أم ارتباط المضاف بالمضاف إليه، أم كان الارتباط ارتباط أركان، وأساسات كالفعل مع فاعله ومفعوله، أو المبتدأ مع خبره، أم النصب على الذم مع منصوبه المحذوف، أم كان التماسك آتيا من تعدد التوجيه النحوي، وتلون الإعراب في جملة: (وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد) الجميع من الألفاظ والعبارات قد تآزر على التماسك، والترابط بصورة جعلتنا نقرأ السورة، وننتهي منها دون أن نشعر بثقلها، وتتابع آياتها، هذا هو دأب لغة القرآن، وهو من أخص خصائصها، وأدق سماتها النحوية، والتركيبية، فالحمد لله على جلال لغة الكتاب العزيز، والشكر لله على أن بصَّرنا بكمالها، وجمالها، وجلالها في: لفظها، وجملها، وأساليبها، وعطاءاتها، واللهَ أسأل ألا يجعلنا على شاكلة أبي لهب، والعقور امرأته التي تفنَّنت في الإيذاء، والشر، وكان بيتهما بيتا صادًّا عن سبيل الله، رغم أن أبا لهب هو عم الرسول الكريم الذي كان يجب عليه أن يكون على النقيض من ذلك، فهو أدرى الناس بصدق الرسول الكريم، ونقاء روحه، وشرفه، وكماله الأخلاقي والإنساني، وهم يقرون له بذلك، لكن الحسد، والحقد هو الذي دفعهم إلى التنكر له، وصدِّ الناس عنه، فالله يكرمنا بأن نكون على النقيض من ذلك، ناشرين لدعوته، ذائدين عن حياضها، مدافعين نها حتى نلقاه، ونشرف بصحبته، وسقياه، والعيش إلى جواره في جنان الله، وصلى الله، وسلم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.