[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/aliaklahersan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي عقلة عرسان[/author]
في عتمة النفوس والمكان.. على مشارف المدى، والموت سيفٌ يحصد الإنسان، في شامنا حاضرة الزمان.. أرض الحضارات التي أبدعها الإنسان.. أرض العنب والتين، والنار إذ تلتهم الأهلين.. أرض الذين عيشهم أضحى الأنينَ والحنين.. في عتمة العقول والنفوس والسنين.. تسألني في رؤية عجيبةٍ.. تلح في السؤال، ماجدةٌ نقيةٌ كأنها الجَمال.. سلسال نبعِ بردى معسَّلٌ مطيبٌ بالهَال.. تسألني..؟! يا نصْلَه السؤال.. يا فتكَه في الروح.. يا ترياقَه القتَّال..

* * * *

بزينةٍ كاملةٍ تخايَلَتْ..
رأيتها.. كأنها عروسْ..
تدوس فوق الأرض.. لا تدوس..
كطائر ما بين أنداءٍ وأزهارٍ يجوس.
كرسيّها المعدّ للجلوس..
كزهرة من لوتس وندْفِ بيْلَسان.
تلبس أغلى جوهرٍ، و"عُرْجَةً"( ) من ذهبٍ..
وفضَّةً مصاغةً إسورةً، أهلَّةً.. " كُرْدَان"( )..
ترفلُ باللؤلئ والمرجان..
كأنها ثُريَّة الأكوان..
وكوكبُ يزيِّنُ الزمان..
يا وجهها الملائكيّ.. كلُّه خَفَر.
من حولها حاشيةٌ..
واحدةٌ.. ثنتان..
ثلاثةٌ.. أربعةٌ.. ألفان..
من نسوة طوال..
بناتُ عبدالمطلب في غابرِ الزمان..
قاماتهنَّ أغصنُ الرُّمان..
ما كدت أعرف زيَّهنَّ.. لونَهنَّ.. أصلَهنَّ.
رنَّةُ الخلخال في أحجالهنَّ..
أرجعتني ألفَ عامٍ، مثقَلَ اللسان..
بكل ما في شَفة التاريخ من بيان..
بكلِّ ما قد كان..
بكلِّ لحنٍ.. سيدِ الألحان.
رأيتها..
كسَروة بهيةٍ تسمَّرَت في فتحة المكان..
تبسَّمَت.. أو هكذا وَهِمتُ أنها بدَت..
قلت انطقي..
تكلَّمي..
ماذا جرى؟ ماذا بدا من حال؟
ما هذه الأحوال؟
إخالُ.. ثمْ إخالُ.. ثمْ إخالْ..
كأنما داخلني خَبالْ،
بلبل مني البالْ..
وتهت بين الأصل والشبيه والمثال..
من يا تُرى..؟ ماذا جرى..؟!
لم تكترث للهفة السؤال..
***
قوامُها في البال..
كأنها مسرجةٌ من نورْ..
سروٌ بهيٌّ في ذرى الجبال..
من حسنها تلاشت النساءُ، أرْقَلَ الرجال..
خَطَت على جسم الدَّرَج..
بوهج دُرٍّ أو بهاء ذي ثَبَج..
هشَّ الدَّرَج..
تبسَّمتْ..
وسلَّمت بكفِّها مصافَحة..
ولم يسِلْ من فمها سؤال..
ولم تجب حتى عن السؤال.
رحَّبْتُ.. لكن هالني اصفرارُها..
ووجهُها الوضيء في وشاحه كأنه تماوتُ اللهيب في المغيب.
مريضةً بدت..
أو أن رونق وجهِها مريض..
أحداقُها خَفَر..
وكل ما فيها بهيٌّ يسلب النظرْ..
كنظرة الغريقِ في أحداقِها..
وصوتُها إذْ نطَقَت من ضعفه شفيق..
مريضةٌ؟ سألْت..
تبسَّمت.. ومن مسامِ الوجه سال الودُّ والسؤال..
أين أخي..؟!
ما كدت أسمعُ همسَها..
كأنما قالت أخي؟! .. أين أخي..؟
أيُّ أخٍ..؟!
كان أخي في صوتها يغيب..
ودَّعْتُه من قبل وقتٍ في شفا المغيب..
بأوجع النحيب..
أين أخي..؟!
سؤالها مرَّ على مسامعي، كأنه من ها هنا عَبَر..
من مفرق الجواب والسؤال..
من خيمة الترحال..
من ضفَّة المُحال..
ما عدتُ أدركُ كنهَه السؤال..
ما عدتُ أقراه: المقالَ والمآلَ والصوَرْ..
ما عدتُ أذكر أيَّ شيء عن أخي.. عن الخبرْ..
وعن ترانيم الضياءِ للزَّهَرْ..
عن الحقول والمطر.
من هي تُرى؟!
حوريةٌ.. فكَّرت..
نصيبُه في جنة الغفران..
أخي الذي كان أخي وغادر الزمان؟!
تلوْت آياتٍ من القرآن كيما أطمئنَّ.. أهتدي..
وغابَ عني المشهدُ الغريب..
دخلتُ في غيبوبة كرْباء
غيبوبة الدماء..
غيبوبة المكانِ والزمانْ.
***
تلامحت لي مرة أخرى على بابٍ.. وبابْ..
في مشهدٍ كأنه الغروبُ في جلبابْ..
رأيتُها رافعة بيدها حفيديَ الصغيرْ،
كأنه قنديلُ شمعٍ أو مدىً منيرْ..
ما التَفتَتْ، ولم تقل لي كِلمةً واحدة..
بدا حفيدي مثل من تنشله من بيرْ..
كأنه في ضيقْ،
في شبه موتٍ فاجعٍ، بحضنها لصيق،
أعطته لي..
كانت على جبينه عصابةٌ خضراء..
وخطُّ عُنَّابٍ على ما يشبه الوشاحَ من ضياء..
أخذتُه، قبَّلتُه..
أو أنني آخذتُه.. قبَّلتُه..
ضمَمْته.. شمَمْتُه..
كأنني ضمَمْتُه، شمَمْتُه..
لمستُه..
كقطعة من مرمرٍ، يغسله السَّحابْ..
رخص الأنامل قاتم الإهاب..
حضوره غياب..
هفَّ بجنحيه على باصرَتي، ثم مضى وغاب..
كأنه شهاب..
ملحٌ بدا..
ملحٌ بدا وذاب..
وغاب كل شيء..
في عتمةِ اللاشيء..
ولم يعُدْ في ناظري مما بدا من شيء..
وأظلم المكان..
وأظلمَ البيان..
وأظلم الزمان.
***
تلامحتْ لي مرةً ثالثةً..
عند بُويْبٍ خلتُه، أو باب..
وفي المكان حولَنا شخصٌ بلا كَياسة..
قاسيةٌ تخومُه..
مربعٌ، بلحية ممشوقة سوداء..
كأنه من فيلق الحِراسة..
من عسس السلطان..
يجوسُ في المكان..
وكفُّه سيفان.
أدركت أن الشخص ذو مهابَة..
أو أنه السلطان.
في فمه كلام..
فمن هو..؟!
كأنما فاهَ بشيءٍ..
ما هو؟!
لا علمَ لي بشيء.
بشْرتُه السمراء قاسية..
عيناه سوداوان..
مدَّ يدًا.. فأظلمَت سرائري،
غامَ المدى وارتعدَ الزمان..
وكان ما قد كان..
وكانَ يا ما كان.
كأنه اغتال أخي.. اغتال أبي..
اغتال حفيدي المرمرَ المُذاب..
وكلُّه الحضورُ في المكان.. وكلُّنا الغيابْ..
تقدَّمَتْ.. تقدَّمَتْ.. زائرتي..
سيفًا بلا قرابْ..
تجاهَلَتْه..
ظلُّه الشّحوب ينحني..
وباتَ لا يُهاب..
الموت أقوى من حضورٍ أو غيابْ.
تقدَّمَتْ ولا دروب بيننا..
ولا تعابيرُ لسان..
ظلالُها شفيفةٌ.. نُثارُ بيلسان..
يرصِّع.. المكان..
تقدَّمتْ.. تسألني: "أين أخي.."؟
أين أخي ثانيةً.. أين أخي..؟!
تلفَّعَ المكانُ بالهباب.. تلفَّعَ الزمان بالضباب..!!
كأنها الحضور..
كأنني الغياب..
كاد لساني يلتوي..
أنطقَني.. شيطان:
"ليس هنا، لم يحضر اللقاء.."..
وفي فمي تجمَّدَ البيان.
***
ناديت من جحيميَ الموصول بالعذاب..
من منتهى سَقَرْ..
ما هذه الألغاز يا فُضلى النسا؟
لِم لا تمدِّينَ النَّظرْ،
فضلَ النظرْ،
لمن تناساه النهارُ والمسا..
هل يا ترى من خافية..
عني، بعلم الغيب، تبقى خافية..
هل من خبَرْ..؟!
هل تكتمين السرَّ كي لا تجرحين القلبَ، والقلبُ جراحٌ دامية؟
وهل.. وهل.. ؟!
لا شكَّ تعلمينْ..
لا شكَّ تعلمينْ!!
قالت: "أخي بلا كَفنْ..
وقلبه ينهشه البَغيض..
ما عادَ ميتٌ ها هنا له كَفنْ..
هذا كَفن.
جاءت محنْ..
حربٌ بلا ثواب..
ناس بلا رقاب..
قوافلٌ من مخلبٍ وناب..
جِنٌّ غزا الهضاب..
لا يتركنْ في كرْمِها فَنَن..
موتٌ بلا سُنَن..
فخذ كَفنْ..
هذا كَفن.".
ولفَّها الضبابْ..
ناديتُ يا فُضلى النِّسا..
أجابني اليباب.
***
أخي.. أخي..
ناديت.. هيا.. يا أخي..
يا شِقَّ روحي في مدى العذاب..
يا تَرْجُمان الآخرة..
أنا هنا في مهمهِ الحضورِ.. كالغياب..
وفي يدي منها كَفَنْ..
جاءت لتعطي قامتي كَفَنْ.
لم يبق بي ما يملأُ الأسماعَ والأبصارَ، ما يُبهي النَّظر..
أوجاعُ روحي كانهماراتِ المطر..
ولم تعد لتظهر الأوجاعُ بي .. أوجاع،
كأنني مَتاع.
كَيْلي امتلأ..
وفاض كلُّ شيء..
وغاب روحي في المدى..
وغاب كل شيء.
باحت بكل السر، ما عاد لنا سرٌّ، ولا قلبٌ، ولا ما يبعث السرورَ والأحزان..
كلٌّ إلى هَوان..
كلٌّ إلى امتهان..
وقدُ المشاعرِ انتهى..
غاض المدى في المنتهى..
والكلُّ هَان..
الأرض والإنسان..
جاءت بواكيرُ الخطَرْ..
حانَ الرحيلُ والسفَرْ..
فاضَ المطرْ..
عمَّ الخطَرْ..
لا فُلك نوحٍ.. لا ضياء.. لا قمر..
ولا حضور للبصائر والبصر..
ها إنني احتضارْ..
وكتلةٌ محروقةٌ، حارقةٌ.. من نارْ..
تدور في المدارْ..
تشعله المدارْ.
عمَّ الخطَرْ..
وطال الانتظارْ..
وأَوحلت وأقفرت من بؤسِها ديارْ..
وأظلمَ المدارْ..
وأظلمَ المدارْ..
وأظلمَ المدار..
وفي يدي منها كَفَن.
دمشق الشام بلا تاريخ، إذ لا تاريخ..