يبحث فى لغة الحياة اليومية بآليات ورؤى فنية خاصة
عرض ـ حسام محمود:
يلقى المؤلف محمد على عزب الضوء على متغيرات القصيدة العامية كوليدة شرطها الشعرى والجمالى والثقافى, حيث يؤكد أنها تبحث فى لغة الحياة اليومية بآليات ورؤى فنية خاصة, وتختلف بنيتها الموسيقية عن بنية القصائد التفعيلة فى شعر الفصحى, وكذلك تختلف العلاقة بينهما وبين الزجل, فهناك أيضا أبعاد متباينة بين القصيدة التفعيلية والعمودية فى الفصحى, حيث إن التفعيلية قامت بتكسير البيت الشعرى فى القصائد العمودية التى تتكون من عدد معين من تفعيلات البحر الشعرى الواحد, واستبدالها بالسطور الشعرية التى لا تلتزم بذلك العدد, وتركت استخدام القافية لحرية الشاعر, بينما الشعر العامى يبدو كمن يتحرك بلا قيود أو حدود بل بلغة العواطف ومشاعر الروح حتى لو تكسرت القواعد الشعرية المتعارف عليها سابقا, فمنبر الشعر العامى رافد من روافد التعبير الصادق عن نبض القلوب بلا رتوش أو ضوابط نقدية ليرسم صورا يتداولها الناس بسهولة.

بصمات شعرية
يطرح المؤلف عدة رؤى شعرية لكبار الأدباء فيشير إلى نظرة الأديبة الكبيرة نازك الملائكة فى مؤلفها (قضايا الشعر المعاصر) التى تعتمد قصيدة التفعيلة فى بنائها الموسيقى على تكرار التفعيلة الواحدة طوال القصيدة, وتشمل الهزج والرجز والمتدارك والخيب والرمل والمتقارب, واعتبرت نازك أن الوافر والكامل من بحور الشعر ممزوجة التفعيلات التى تتكون من أكثر من شق نحو البحر السريع من الشعر. وهناك كثير من الشعراء الذين يعمدون إلى التعامل مع التفعيلة كوحدة موسيقية واحدة كمجموعة من الحروف المتحركة والساكنة, وكانت نازك تركز على قاعدة عروضية مهمة, وهى عدم تنوع التفعيلات فى القصيدة الواحدة كاطار يغلفها ويميزها عن باقى القصائد من بحور الشعر. ويؤكد كبار الشعراء العرب على ضرورة توحيد التفعيلة الشعرية مبرزين أهمية عدم خلطها بقوافى مناظرة أو محاكاة ما تم تقديمه من شعر السابقين كى تنفرد القصائد بعرض فنون أدبية جديدة من خلال توحيد التفعيلة, ووصولا إلى قافية مميزة تكون فى خضم تطوير حيز البحر الشعرى نحو مزيج مقنن من أطياف الموسيقى, مما يخلق انبهارا عن وضع منظومة شعرية فى جو من العطاء المتدفق الذى يذهب بالمستمع أو القارئ نحو قضية أو تجربة أو رؤى نظرات جديدة لعالم ما يدور حوله, وربما يكون فى اطار تجاربه الذاتية ليمثل الواقع الشعرى نموذجا خصبا لخدمة أهداف الأصالة والمعاصرة حتى لو كان امتدادا لعامية تجمع بعض كلمات الفصحى. فليس الخلط بخطأ ولكن المضمون هو المهم من الرسالة الشعرية التى تحمل نحو جذب الجمهور وشد الانتباه ما تم صياغته من ألوان الشعر الفنى بموسيقى تبدو صوتية أو ذاتية أو نصية لكنها فى مجملها ترسل أنماط حكايات وأهازيج شعرية.
أما فى القصيدة العامية فإن هذا المزج يظهر كظاهرة منتشرة منذ جيل الرواد ومثالا لذلك قصائد صلاح جاهين الأولى خاصة فى قصيدة شاى بالحليب. ويمثل الشعر العامى لصلاح جاهين بانوراما خصبة تحكى مختلف مشاعر العامة والمثقفين والناس من مختلف الأطياف, حتى أنه رسم صور حياة المهمشين والعاشقين والخائنين بلغة سهلة وبلا قيود تقليدية جعلت صور الشعر العامى تنبرى فى وجدان الناس, فعواطف صلاح جاهين الجياشة كانت هى سر كلماته الثاقبة والساحرة حتى لو تخطت الفصحى نحو عامية الشعر, فما أروع تدفق العشق فى شعر جاهين بلغة القلوب التى صنعت آفاقا من الطموحات والأحلام نحو عنان السماء, وحتى الصراعات والنضال وروح القومية لم يتركها صلاح جاهين إلا وكتبها بقلمه من خلال تصوير شعر صادق ملأ الصدور لتخفق بما تركه من قصص الإنسانيات كقصائد عامية تتخللها فصحى, واحيانا بلغة دارجة بلا روتوش أو حرج, لتكون كبانوراما حالمة للأدباء والمثقفين العرب, وتشكل مثالا يحتذى به فى كيفية صناعة لون شعرى جديد بموهبة فذة يجمع أطياف الفكر والمضمون الذى يصل بسرعة وعفوية للجمهور بعامية, وبالتالى جاءت التفاعلات الاجتماعية مع جاهين مبهرة حتى لقب عند البعض بفصيح العامية الشعرية فى الأدب العربى.

العامية والزجل
أما عن علاقة قصيدة العامية بالزجل فهى مختلفة تماما عن علاقة القصيدة التفعيلية بالقصيدة العمودية فى شعر الفصحى, فإن كانت قصيدة العامية تختلف فى بنائها عن قصيدة التفعيلية الفصحى, فالزجل من الفنون السبعة التى خرجت على بناء عمود الشعر, ولم تلتزم بوحدة الوزن والقافية, والبناء الزجلى يشبه البناء الفنى للموشح إلى حد كبير, حيث تتكون المنظومة الزجلية من عدة مقطوعات, تسمى المقطوعة بيتا, وتتكون كل مقطوعة من مجموعة أشطر بعضها يسمى أغصانا وبعضها يسمى أقفالا تتغير أوزانها وقوافيها من مقطوعة إلى أخرى, وهذا الشكل الفنى هو الذى يحدد هوية الزجل باعتباره نظما شعريا غرضيا يصاغ بالعامية يلتحم بالواقع, ويعالج القضايا السياسية والاجتماعية من منظور نقدى لا يقوم على نقل الاحداث كما هى, ولكنه يعيد بناءها حسب الرؤية المفارقة والقفشات الطريفة. يختلف الزجل فى بنائه وخصائصه الفنية وأهدافه عن قصيدة العامية, حيث إن الزجل فن غرضى يعالج قضية محددة ومن ناحية ذلك فإن كل الفنون والآداب لا بد أن يكون لديها ما تقوله, ولكن القضية المعالجة تكون أكثر تحديدا وبروزا فى الزجل كما فى فن الجرافيت أو فن الكاريكاتير. أما قصيدة العامية فتسعى إلى نقل حالة من التوتر الشعرى للمتلقى عبر المفردات والتراكيب والصور, وتعد رافدا من روافد حركة التجديد الشعرى التى تبلورت فى خمسينيات القرن العشرين. والواقع أن الفنون الشعبية غير المعربة وهى بالعامية فى أصل نشأتها كانت وليدة حركة تجديد دافقة فى الشعر العربى, فعندما ظهر الموشح الذى خرج على عمود الشعر نسج أهل الأندلس على منواله بالعامية فنا سموه الزجل, وكذلك فن المواليا ابتكره أهل واسط فى العصر العباسى, وصاغوه بالفصحى ثم أخذه عنهم أهل بغداد وصاغوه بالعامية؛ فنسب لهم وهم ليسوا بمخترعيه, وكذلك المربعات الشعرية والدوبيت.