إن العرب قد اعتنوا بالأمثال عناية قل نظيرها، فقد أقحموها في كل ميادينهم تقريباً، فكان لكل ضرب من ضروب حياتهم مثل يلهج به، وبلغت عناية اللغويين مدى مميزاً عن سواهم ، لأن المثل بالنسبة إليهم كان يجسد اللغة الصافية إلى حد كبير ، فأخذوا منها الشواهد الجمة وبنوا على أساسها بناءهم اللغوي . ( 1 )
وصاحب حكايتنا لهذا اليوم هو عمرو بن هند ، (عمرو بن المنذر بن امرئ القيس بن عمرو بن عري اللخمي ابن أخت جذيمة الأبرش ملك الحيرة) ، والبرامج هم: أبناء حنظلة بن مالك بن زيد مناة ابن تميم * ، وسموا بذلك لأن رجلاً منهم قال تعالوا فلنجتمع كبرامج يدي هذه ، وهي مفاصل الأصابع واحدتها بُرجُمة، وقد كان لعمرو بن هند أخ وهو أسعد بن المنذر كان في بني دارم مسترضعاً في حجر زُرارة بن عُدُس الدرامي، فلما شب خرج يوماً يصطاد ولما انصرف من صيده وبه نبيذ ( 2 ) ، مرت به ناقة كَوماء (أي عظيمة السنام) فعبث بها ورمى ضرعها فرماه رجل من بني دارم بسهم فقتله – يقال إن اسمه هو سويد بن ربيعة التميمي- (3 ) ، ثم هرب فلحق بمكة وحالف قريشاً بعد أن عرف أنه قتل أخو عمرو ابن هند . وكان زرارة ابن عُدُس من خواص عمرو بن هند ، وهو يومئذ على عدى مع قبيلة طيء التي تتربص به فرصة للانتقام منه، فلما بلغهم أن دارماً قتلت أسعد ، فقام عمرو بن ملقط الطائي ينبه عمرو بن هند للنهوض إلى ثأره ويغريه بقتل زرارة فقال فيه شعراً، فوافى الشعر عمراً، وزرارة عنده، فقال له عمرو: ما يقول هذا ؟ فقال زرارة : كذب ، قد علمت عداوتهم لي فيك، قال صدقت ، فلما أمسى زرارة هرب ولحق بقومه . فغزاهم عمرو بن هند ، وحلف ليحرقن منهم مئة بأخيه أسعد. فلما نزل بأوارة تفرقوا عنه هرباً فتبعهم حتى قبض تسعة وتسعين منهم ( 4 ). فأمرَ لهم بأخدود فحُفِرَ لهم، ثم أضْرَمَه نارًا، فلمَّا احتدمتْ وتلظَّتْ، قذفَ بهم فيها، فاحترقوا.
فأراد أن يكمل العدة فلم يجدْ إلا عجوزًا كبيرة، وهي الحمراء بنت ضمرة، فلمَّا نظرَ إليها وإلى حُمْرتها، قال لها: إني لأحسبك أعجميَّة
فقالتْ: لا ، والذي أسأله أن يخفضَ جَناحَك
ويهدَّ عمادَك
ويضعَ وسادَك
ويسْلبَك بلادَك
ما أنا بأعجميَّة
قال: فمَنْ أنت؟
فقالتْ:
إِنِّي لَبِنْتُ ضَمْرَةَ بْنِ جَابِرِ
سَادَ مَعَدًّا كَابِرًا عَنْ كَابِرِ
إِنِّي لأُخْتُ ضَمْرَةَ بْنِ ضَمْرَهْ
ثمال من يعتريه في الحجرة
إِذَا الْبِلاَدُ لُفِّعَتْ بِجَمْرَهْ ( 5 )

وقالت بعدها :
أنا بنتُ ضمرة بن جابر
ساد مَعَدًّا كابرًا عن كابر
وأنا أخت ضمرة بن ضمرة
السريع الكرة، البطيء الفرة
قال : فمن زوجك؟
قالت : هوذة بن جَرْوَل.
قال: وأين هو الآن ؟ أما يعلم بمكانكِ؟
قالت : كلمةُ أحمق ، لو علم بمكاني لحال بينكَ وبيني.
قال : وأي رجل هَوْذة؟
قالت : وهذه أحمق من الأولى ، أو عن هوذة تسأل؟
هو والله
طويلُ النَجاد
وضيع العماد
طيب العِرْق،
سمين المَرَق
لا ينام ليلةً يخاف
ولا يشبعُ ليلة يُضاف
يأكلُ ما وَجَد
ولا يسألُ عما فَقَد..
فقال عمرو: أما والله لولا أنِّي أخافُ أن تلدي مثْلَ أبيك وأخيك وزوجك لصرفت النار عنك ولاستبقيتُك.
فقالت : أما والله ما قتلت من بني تميم إلا نساءً أعاليها ثُديُ وأسافلها دُمِيُ ، ووالله ما أدركتَ ثأرًا ولا مَحوتَ عارًا، وما مَن فعلتَ هذه به بغافلٍ عنك ، والحرب سِجال ، ومع اليوم غد.( 6 )
فأمرَ بإحراقها، فلمَّا نظرتْ إلى النار، قالتْ: هيْهَات صارتِ الفتيان حِمَما، فذهبتْ مثلاً، ثم أُلْقِيَتْ في النار. ( 7 )
وكان قبلها مر وافدُ البرامج - وهم بطن من بني حنظلة - عند المساء، فاشتم رائحة الشواء ولم يشعر بالأمر فظن أن الملك قد اتخذها طعاماً فأقبل نحوه تخب به راحلته لينال منه حتى وقف على عمرو بن هند فقال له : مَن أنت؟ قال: أبيتَ اللعن، أنا وافد البرامج. فقال له عمرو ما جاء بك؟ قال: حُبُّ الطعام، قد أقويتُ ثلاثًا لم أذقْ طعامًا، فلمَّا سطعَ الدُّخَان ظننْتُه دُخانَ طعامٍ، فقال له عمرو بن هند: ممن أنت؟ قال: من البراجم، قال عمرو: إن الشقي وافدُ البراجم، فذَهَبَ مثلاً، ورمى به في النار، فبر بيمينه، فهجَتِ العرب تميمًا بذلك، عيرتها بالقرم (أي: الرغبة الشديدة لأكل اللحم) ( 8 )
فقال ابن الصعق العامري مستهزئا :
أَلاَ أَبْلِغْ لَدَيْكَ بِنِي تَمِيمٍ
بِآيَةِ مَا يُحِبُّونَ الطَّعَامَا
ولذلك عُيِّرتْ بنو تميم بنقب الطعام، لِمَا لَقِيَ هذا الرجل
قال الشاعر:
إِذَا مَا مَاتَ مَيْتٌ مِنْ تَمِيمِ
فَسَرَّكَ أنْ يَعِيشَ فَجِئْ بِزَادِ
بِخُبْزٍ أَوْ بِلَحْمٍ أَوْ بِتَمْرٍ
أَو الشَّيءِ الْمُلَفَّفِ فِي الْبِجَادِ
تَرَاهُ يُنَقِّبُ الآفَاقَ حَوْلاً
لِيَأْكُلَ رَأْسَ لُقْمَانَ بْنِ عَادِ
ويضرب هذا المثل في الإنسان الذي يجلب الحَيْنَ على نفسه، وهو من باب قولهم : " بحث عن حتفه بظلفه"،ومن هذا قولهم: " لا تكن كالعنز تبحث عن المدية "( 9 )
وفي ذلك قال أبو الأسود الدؤلي:

فلا تك مثل التي استخرجت
بأظلافها مدية أو بفيها
فقام إليها بها ذابح
ومن تدع يوما شعوب يجيها ( 10 )
وقال الفرزدق :
فكان كعنز السوء قامت بظلفها
إلى مدية تحت الثرى تستثيرها ( 11 ).
وبهذه الواقعة سمي عمرو بن هند مُحَرَقاً لتحريقه بني تميم ، وقيل لعُتُوَة وفساده في الأرض فكأنه حرقها . وكان جدُه أمرؤُ القيس أيضا – فيما يزعمون – يسمى محرقاً.*
الهوامش والمصادر
1- أبو علي ، محمد توفيق، الأمثال العربية والعصر الجاهلي، ط1، دار النفائس، بيروت، 1988م، ص31.
* بنو تميم قبيلة عربية ، وكانوا قبل الإسلام أهل بادية كثيري الحروب وكانت لهم معارك كثيرة ، أنظر : ويكيبيديا، الموسوعة الحرة.
2- إبراهيم، شمس الدين باشا، معجم الأمثال العربية ، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الاسلامية، الرياض ، ط1، ج1، 1423هـ / 2002م
3- مصطفى شيخ مصطفى، موقع الألوكة15/8/2010 م
4- إبراهيم، شمس الدين باشا، مرجع سابق
5- مصطفى شيخ مصطفى، مرجع سابق
6- إبراهيم، شمس الدين باشا، مرجع سابق
7- مصطفى شيخ مصطفى، مرجع سابق
8- السندي، أحمد ، منتدى البوادي ، 11/5/2010م.
9- منتديات ستار تايمز ، الماثورات الثقافية ، 24/8/2010م.
10- البيتان في ديوانه: ص22 وحماسة البحتري: 179ص والأغاني ص 120.
11- ديوان الفرزدق: 11 (ص 24 ط بوشيه وهل) والمعاني الكبير: 876، 1028 والأبيات في مدح سليمان وهجاء يزيد بن مسلم (واسم مسلم دينار) كاتب الحجاج، وكان قد حمل إلى سليمان من العراق مقيدا حين أصبح خليفة.
* وعمرو بن هند هذا هو الذي يُقال له: مضرط الحجارة، سُمِّي بذلك لشدة وطْأَتِه وصرامته، وهو مُحْرِقٌ أيضًا، سُمِّي بذلك؛ لأنه أحرقَ ثمانية وتسعين رجلاً من بني دارم بالنار وأكملهم مائة برجلٍ من البراجم، وامرأة نهشليَّة تملك شجاعةً نادرة، فقد واجهتِ الملك بما يكره، انتصر لنفسه بالقتْل، وانتصرتْ لنفسها بالقول والعقْل، وشتَّان بين منتصرٍ ومنتصر، شتَّان بين ملكٍ وامرأة!

فهد بن محمود الرحبي