ليلةٌ عاصفةٌ .. عند مُنتصف الليل .. حين عجزت أُذناي عن النوم .. بسبب تزاحم أغصان شجرة الزيتون على نافذة غرفتي المكتظة بالظلمة .. خَبّأتُ قدميَّ الباردتين تحت الغطاء .. وأنا أرى وميض البرق يشقُ قضبان النافذة .. ويرسم لي صورة من المخلوقات على جدران الغرفة .. هدوء ..! بالكاد صرتُ أسمع أنفاس الغرفة المجاورة ..!
أغمضتُ عيني التي غلبها النعاس .. ولكن الخوف كان يصارعها فيوقظها .. صوتُ الرياح يناديني من الخارج .. شعورٌ غريبٌ حقاً..! وماهي إلا لحظاتٌ..حتى تساقط البرد .. مسكينةٌ نافذتي .. تتحمل كل هذا العبء لأجل راحتي ..
سيطر النعاس على مخاوفي .. استسلمتُ لنوم .. وماهي إلا لحظاتٌ حتى أيقظني صوتُ نواحٍ .. فتحتُ عيني على عتبة أبواب المقبرة ..! لستُ مدركاً ما إذا كان حلماً أم واقعاً .. بدأتُ أقرص وجنتي الباردتين .. لعلي أستيقظ .. ولكن دون جدوى ..!
صوتٌ..بل..
أصواتٌ تتزاحم في العتم .. يعلوها صهيل البكاء.. وشهيق يكاد ينقطعُ من شدته..! تمنيتُ أن تكذبني أُذناي فيما أسمع.. لكنها خذلتني ..!
نظرتُ إلى الساعة .. الليل أعلن الحداد .. هدأت العاصفة..! شعرتُ بصقيع يلتحف قدميّ .. حبات البرد متناثرةٌ في كل مكان .. جلست تحت شجرة زيتون قريبة مني ..حين سمعتُ حفيف أوراقها الرطبة .. تحسستُها واحتميتُ تحت لحائها الدافئ .. لملمتُ أوراقها الجافة فدسْسَتُ قدمي العاريتين تحتها ..
لقد هرب فكري .. وكأنني وسط المجهول .. البخار يخرج من فمي حين رأيتهُ تحت ظل القمر الواهي .. الجوع يشقُ أحشائي الضمرة ..عجباً ..! كيف حدث أن ولد الشتاءُ في فصل الصيف..!؟ المكان مظلم وموحش .. وكل ما أسمعهُ أصواتُ البكاء ولكن دون أن تُدرك عيناي أي مخلوق .. نظرتُ إلى السماء ..زهرةً سوداء وسط الوحل ..تعكرت السماء ..!
حدثتُ نفسي : سأنتظر حتى يُزف الفجر .. ثم سأبحث عن ضالتي ..! حين قطع حديثنا صوت خطوات رقيقة .. تكاد تُلامس الأرض وهي مسرعةٌ نحوي .. حين صفعني قلبي ليوقظني من غفلتي وينسيني ألم الصقيع .. نهضتُ مسرعاً .. وأنا أجري دون أن أدرك ما أمامي .. دون أن أشعُر باغتصاب الشوك قدمي العاريتين .. وكأنني عجوز في التسعين من عمرها .. نهضتْ مسرعة لترى قدر البلح اذا ما استوى .. خوفاً على أحفادها من الجوع في غيبة والديهما ..تتلسّسُ القدْرَ على نار الجوع .. قطرات ألم وبسمةُ سعادة ربما تخففها ..
فجأة .. توقف الصوت .. حين كادت أنفاسي تنقطع من شدة الجري .. نسيتُ البرد .. وشعرتُ بلهيب صدري يذيب حبات البرد تحت قدمي المترهلتين من التعب والوخز ..!
يدٌ تمتد لتشد على يدي الرجفة ..! لم ألتفت ..تسمرت قدماي في بركة ماء باردة .. فاعترت جسمي نفضةٌ غادرةٌ .. مثل عصفور بللتهُ قطرات المطر .. فتناثرت على ريشه الناعم .. لقد كسا الخوف بدني المتهادي .. يا الهي .. بالكاد صرتٌ أشعرُ بدمي يسري في عروقي .. نهر انقطعت مياههُ عن التدفق..!
خوفٌ .. امتزجْت معهُ دموعي الخائنة .. وضحكةٌ مجنونةٌ .. تنحني إجلالاً لتسلط الخوف على كياني هذه المرة ..صوتٌ خافتٌ .. يُحدثني .. حين سمعتهُ يقول : لا تخف .. أستجمعتُ ما بقيَ مني .. فأدرتُ ظهري ..
طفلٌ صغير ..! نزلت عيناي عليه .. أفلت يدي ثم احتضن جسدي البارد وأنا في ظلمة دهشتي وخوفي .. أمسكتُ به من كتفيه وأزحتهُ بقوة .. ونظرتُ إلى وجهه .. في تلك اللحظة .. إنهرتُ حزناً .. ثم بدأتُ أجهشُ بالبكاء والنواح ..! كانت طفلة .. تلعبُ ..وتدور حولي في حالة بكائي وصراعي لذكرياتي التي أبت الكذب فيما تراه عيناي الغارقتان في الدموع.. وفي غفلة منها .. سحبتُها إلى حضني .. ثم قالت : خالي العزيز لماذا تأخرت علي ..؟ انتظرتُك طويلاً ..؟ لماذا البكاء ..؟ لقد توالت أسئلتُها .. وأنا على رائحة صوتها وابتسامتها العطرة .. وجهٌ وضّاحٌ يتفرق منهُ نورٌ عجيب .. يكاد يضئ ما أخفاهُ الظلام عنيّ ..
لم أفلتها لحظة واحدة ..
نبرةٌ مخنوقةٌ .. حين قلتُ لها : كيف لي أن أراكي بعد طول هذه السنين..؟ ابتسمت .. وقبلت وجنتي الباردتين .. ثم أجابت .. سأنتظرك فلا تتأخر علي ..!
في لحظة تفكيري بكلامها الغامض .. سطع وميضٌ على عيني .. بالكاد استطعت أن أفتحهما.. حين شد مسامعي صوت تغريد (أبو الحناء) على نافذة غرفتي وقد نثر قطرات الندى عن ريشه فلامست عينيَّ الخدره .. وهو يقف على غصن شجرة الزيتون .. تناثرت ثمراتها على بساط الأرض .. نهضتُ مسرعاً الى الخارج .. حين رأيت أمي مع أخي الصغير تجمع أوراق الزيتون التي ذرتها عاصفة الأمس .. وقفتُ على عتبة الباب وأنا أتحسس خدوش حبات البرد .. أخذتُ نفساً عميقاً .. وأنا أنظرُ إلى السماء الصافية وفي عيني ألف دمعة أبت النزول في تلك اللحظة ..
أخذتُ خفيَّ .. لحظات وأرجعتهُ إلى موضعه .. التقطتُ من ثمار الزيتون ما أُسكتُ به أنين بطني الجائعة .. ابتسمتُ وتركتهُ لعصافير المطر .. توجهت إلى المقبرة .. أتحسس أمل البارحة ممزوجاً بألم اليوم .. قبل ستَّ سنوات كانت تُغَرَّدُ بثوب المدرسة .. جلستُ على قبرها وأنا أحدثها بعد سكون العاصفة .. وقد امتزجت دموعي الثائرة مع ندى العشب المتنامي على ثغرات قبرها الضيق .. حين اقتبستُ كلمات بيان الصدفي :
" اه يا صاحبي .. قد رحلت سريعاً .. سريعاً .. وحملت ما لا أُطيق .. وأنت لم تُبْق لي غيرَ قبر مَوشَّي بزخرفة الموت .. قافلة تتهادى .. عتمتها ظلها .. والرماد الطريق .."

نوال بنت حمود المعمرية