المشهد الثالث داخل السوق وهو تمثيل لحالة الشعب التي يعيشها من خلال مرآة مقعرة تضع سلطة الشائعة هي الغالبة في غياب وسائل الحرية المغلولة فالرجال يتناقلون شائعات مثل (زيادة الرواتب القادمة، إلغاء الديون بالكامل، الأسعار ستنخفض، بيع القرية لوزير الملك شهريار، ماعدا بيوت الناس، لكن الكهرباء والطرق ستكون ملكا للوزير) جملة هذه الشائعات هي فعل حركي مسيطر في الاحداث المسرحية، وتضخيمها وتحريك مشاعر الناس بها يدخل في عملية الالهاء التي تمارس متى ما احتاجت السلطات إلى زيادة شعبيتها.
يبرز في هذا المشهد أيضا حدثٌ رئيس متمثل في ولادة المولود الجديد للملك شهريار، وماذا فعلت السلطات بهذه المناسبة لتقديم الولاء والطاعة والحب للملك؟ بأن فرضت على الشعب ارتداء النظارات الوردية، وأجبرتهم على شرائها، وكحال الناس دائما يقول على سبيل المثال هذا الرجل:"لماذا لا نفرح ، إنما أيها الشرطي وباعتبارك من الحكومة، هل سيأمر مولانا الملك بمكرمات بهذه المناسبة. الشرطي: (محتدا) ألا تشبعون؟! كل مناسبة تريدون لها مكرمة، ألا تكفيكم الفرحة والسعادة لقدوم الابن البكر لمولانا الملك؟" وهذا ما يسوق له الوزير لدى الملك شهريار " الوزير: أصر الشعب با مولاي على أن يحتفلوا بمولد ابنكم الميمون بارتداء نظارات وردية، كل مواطن أقسم أنه لا بد أن يرتديها فرحا. الملك شهريار: أليس في ذلك تكلفة عليهم وهم الذين يشتكون كما أقرا من الفقر والظروف الصعبة؟. الوزير: هذه شائعات المنتديات" فهنا الوزير نفسه يروج للشائعة كمن كذبه الكذبه وصدقها أو انطلت عليه أيضا. في نهاية هذا المشهد نجد بداية للتحول عند الملك شهريار وأنه لا يكتفي بأن يكون مراقبا ومعزولا داخل الاسوار وإنما يقرر أن يقوم بشيء " أريد أن أرى الفرحه في وجوه الناس البسطاء، لا انتظر ما يقوله وزيري عنهم". هذا التحول له ما يصوغّه، ووضع له الكاتب مقدماته من خلال ما أشرنا له سابقا كالأحلام التي راودت شهريار والمدح المبالغ فيه الذي وقع فيه الوزير.
المشهد الرابع في سوق القرية الملك شهريار متنكرا في ثوب رجل عجوز. هذا التنكر أو التمثيل داخل المسرحية هو أيضا وسيلة في الاعمال التاريخيه ظهرت عند العديد من الكتاب الغربيين والعرب واللجوء اليها له ما يبرره وهو معرفه تسهيل الوصول إلى الحقيقة التي تبدأ بمجرد الشك وينتهي بها المطاف إلى تبيان صلب القالب الدرامي والعقدة الرئيسة للمسرحية، وهنا نجد هذا العجوز المتنكر يؤجل الرحبي كشفه لنا من الوهلة الأولى إلا بعد أن تزداد لغته واندفاعه ووقوفه ضد الشرطة ومع الناس البسطاء حتى انهم ساورتهم الشكوك في مصداقيته " الرجل2: أخشى أن هذا الرجل العجوز رجل مخابرات. الرجل 3: نظرية المؤامرة دائما، يارجل، ألم تر الشرطي وهو يجره كدابة. الرجل2: ربما المشهد يتطلب ذلك ، وكل رفسة لها ثمنها لاحقا".
تتكشف لدى شهريار باقترابه من أحوال الناس جملة من الحقائق، وحجم التزوير الذي مارسته حاشيته عليه، لدرجه أنه صدم حتى في زوجته شهرزاد وهي شريكة للوزير وهذا كلام يتناقله الحراس عنهما، وهذه المكاشفه لخصها الرجل الذي يكتب على زاوية المسرح وهي وسيلة لجأ اليها الرحبي لاختزال حجم الضغط والصدمه التي وقعت على رأس الملك شهريار" الرجل: مرعبة الخديعة لمن لا يعرفها، كالنار تأكل النفس.. هل جرب أحدكم أن يحتضن خديعة ليدرك حجم الفجيعة؟ نريد أن نخدع الجميع. ولا نريد فردا أن يخدعنا. على الآخرين احتمال جمر خديعتنا على ارواحهم، ونشتعل غضبا إن وضع أحدهم جمرة واحدة على ارواحنا . أحدهم يخدع ملكا. وآخر يخدع شعبا. وهناك من يخدع الملك والشعب والمملكة. ولا أحد يروي ما حدث في الليلة الثانية بعد الألف من ليالي شهرزاد.
لأول مرة في هذا المشهد يدخل الملك شهريار بشعور الشعب وهو جالس على كرسي عرشه بعد أن ضاق بنفسه كيف تعامل الشرطة رجلا عجوزا وتضربه، مما جعله يظهر للمرة الأولى لوزيره بحوار مختلفٍ، وهي صحوة وإن كانت متأخرة فالملك شهريار يعدها إنقاذ ما يمكن انقاذه من أساسات المملكة، لهذا تتنازعه المشاعر في نهاية هذا المشهد فها هو يقول" حتى الوزير وقائد الشرطة يكذبان، هل لأني لم أعرف كيف أنتقي رجالي؟ لكن قبلهما جربت وجربت، والنتيجه كانت واحدة، أين سأجد هذا المخلص والناس متلونون، فلا يعرف مخبرهم لفرط جمال مظهرهم، على عرشي كأني لست ذلك الرجل العجوز المتشرد، شعوري مختلف جدا، وحينما أكون في ملابس الرجل يأتيني إحساس غريب كأنني لست الملك، وجوه الناس القريبة تجبرني على تحمل إحساس مختلف".
المشهد الخامس في السوق، وبأسلوب تهكمي تميز به الرحبي في كتابته لقفشات حوارية، نجد أن الرجل العجوز يقود المظاهرة مع الشعب، ولكنه مع الملك شهريار الذي هو نفسه، وهنا تظهر أهم المعالجات للمصالحة التي تقود إلى التغيير، وهي بالالتفاف الشعبي مع الملك والوطن وضد الفساد والمفسدين، وهذه النتيجة حققتها الحوارات والهتافات التي تعالت في كل أرجاء السوق، مع ظهور المعارضة بكل أقطابها وكشفها لمطالبها بعد أن أمر الملك شهريار وزيره وقائد الشرطه بألا يتعرض لمن يعارضوا حكمه ولا يسفك نقطة دم واحدة كما جاء في تنبؤ المنجم عمران حفاظا على عرشه. وهنا رسالة موازية يحققها هذا المشهد بالخروج من دائرة الخوف إذ يقود الرجل العجوز الهتافات كعلاج مضمر منه ليلتف الشعب حوله ويكشف أن هذه المطالب لجيل كامل من الشباب لا يلاحظه رجال الأمن" الضابط: لم يبق إلا العواجيز ليعلمونا كيف ندير أمور البلاد؟ العجوز: هؤلاء جميعهم شباب، لماذا تغمض عينيك عنهم وتنظر نحوي فقط؟!!.
أما المشهد السادس فهو في عرش شهريار، نجد الوزير يحدث نفسه في تطور متلاحق على تكشف التغيير الذي بدا يظهر على الملك شهريار فها هو يقول" اشعر أن ريحا عاصفة لا أعرف من أي اتجاه ستهب، ولا مقدار قوتها، قد تأتي فجأة ، وربما ستكنس كل شيء، احلامي وطموحاتي.. الملك يختفي من القصر لا أحد يعلم أن يذهب، أخشى ان يلتقي الناس فيسمعهم، هذا هلاك لي".
تتكشف في هذا المشهد النبوءة وهي الكذبة الكبرى التي نسجها الوزير والجارية مع المنجم عمران خوفا على مصالحهم وحماية لرقابهم من بطش شهريار. شهريار يدخل على عرشه مختلفا هذا المشهد طالبا من الوزير رؤية ما يدور في مملكته من خلال ما يبثه الاعلام المرئي، فيجد مفاجأة جديدة مخطط لها من قبل الوزير وهي أن " الملك: (يتناول الملف ويفتح شاشة تلفزيون ضخمة يحاول الملك إيجاد قناة لكن لا تظهر سوى قنوات رياضية) اين بقية القنوات؟ الوزير: موجودة يا مولاي، لكن لا قيمة لها ، ولولعكم مولاي الملك بالرياضة تركنا لكم هنا القنوات الرياضية. الملك وقنوات بلادنا؟!! ". واضح أن تأزم الأحداث بين الملك شهريار والوزير قد بلغت ذروتها وأن خيوط اللعبة المسرحية بدأت تضيق على شخصياتها ودرجة التوتر وصلت أقصى درجاتها وتحديدا عندما طلب الملك إحضار الرجل العجوز من السوق في تحد لوزيره اذا استطاع أن يجده أصلا لان العجوز هو ذاته الملك شهريار.
أما المشهد قبل الأخير وهو السابع فتدور أحداثه في السوق ، وهنا تظهر شائعات أكبر تغلف عقول الناس وتستهويهم وتظهر مدى المبالغات وعدم الواقعية في سردها للناس وهي درجة من اللاوعي تمر بها الامم قبل انهيار انظمتها لانها تخضع لفعل التهويل وعدم الرضى عن كل شيء في ظل غياب صوت الحقيقة نذكر منها: ابن الملك أكمل عاما بعد خمسة أشهر من ولادته!، ومكرمة منح اجازة شهر كامل للشعب، نقود توزع على كل البيوت، كل طفل يكمل العام في ذات تاريخ مولد ابن الملك شهريار سيعطى هدية، والوزير سيجمع من الشعب نقودا لصناعة أكبر مصاصه في العالم عليها صورة ابن الملك.
في نهاية هذا المشهد هناك اختصار لحكمة المُلك، والضياع الذي سيحل بالدولة في ظل التجاذبات الحاصلة بين أهل الوطن الواحد، وهنا رسالة يسجلها الملك شهريار المتخفي بدور العجوز كان يود أن يوصلها بنفسه، ولكنه يسمع خلاصة أخرى على لسان رجل من الشعب يقول فيها " العجوز: أنا الوحيد الذي يعرف الفاصل بيني والملك. ثم ماذا يضيرنا لو وافق الملك أو لم يوافق، نحاول، على الأقل نشرح للملك ماذا نريد، ربما لا يعرف شيئا عمّا يحدث بعيدا عنه.
الرجل2: إذا كنت تدري فتلك مصيبة. العجوز: وإن كنت لا تدري.
الرجل 2: فالمصيبة أعظم".
ويأتي المشهد الثامن والأخير بمجموعة خلاصات وحلول يقدمها الكاتب الرحبي في قوالب من خيوط مختلفة، ولكنها ترقع نفس نسيج الثوب. فيفتتح المشهد الرجل الذي يكتب في زاوية المسرح وهو الراوي لأحداث هذه الحكاية من كتاب ألف ليلة وليلة فيقول" إنه العرش .. حكايات ما بعد الليالي الألف والألف. الحكاية المستعادة كأنه لا قديم قبلها ولا حكاية. الجالس على العرش ناعم كالملاك قاس كالشيطان. يجلس بين الإثنين متمردا على هذا وذاك. للعرش خطيئته، وللخطيئة طفلها".
في هذا المشهد تكثيف يكشف عن حجم ما دار في المشاهد السابقة من صراع، وما ستولد عليه النهاية لذات الصراع القديم الجديد على السلطة. ثم تدخل المكاشفه الثانية، وهي إن طفل شهريار ما هو الا ابن للجارية، والوزير هو من حملها على هذه الخطيئة التي لا تستطيع الفكاك منها، فنجدها تقول" لكنه الوزير، أقوى من أن يردّ له سهم خطيئة، والشيطان، آه الشيطان دائما، شماعتنا لتعليق أخطائنا، من يفعل الخير فهو من نفسه، من يرتكب الشر فهناك شيطان ما قادر على الإغواء" من هذه الخلاصة الثانية ينقشع الدخان والعالم الخيالي ليظهر الملك شهريار مع زوجته شهرزاد في محاولة منه لكشف علاقتها ودسائسها مع الوزير ، قال أولم تؤمن قال بلا ولكن ليطمئن قلبي، هكذا فعل شهريار وعبر عنه الحوار التالي" الملكة: يقال إن البلاد تحوم حولها المؤامرات. الملك: أنا واثق أنها ستعبر ، طالما بقيت المؤامرات خارج القصر لا خوف منها، ما اخشاه أن تكون داخله. الملك: داخل القصر؟! من يجرؤ على ذلك وأنت الملك العظيم!! الملك: النفوس خلقها الله كالفاكهة، تبدو رائعة المنظر أحيانا، ولا يعرف داخلها إلا بوضع السكين في بطنها.الملكة: كل من في القصر يدين لك مولاي الملك.
الملك: واثق. أنا واثق. الملكة: الحمد لله طمأنتني. الملك: طمأنتك، وهل كنت قلقة؟!". يصر شهريار على دخول الوزير ويطلب من شهرزاد أن تكلمه بحبٍ دافئ، وهذا أمر لا يمكنها الا تنفيذه بحذافيره، والا تعرضت للعقاب.
ينتهي المشهد بكشف الوزير عن مسلسل خداعه الطويل بعد إصرار شهريار بإحضار الرجل العجوز، فيدخل قائد الشرطة في الخط الدرامي بان يقترح على الوزير احضار اي رجل عجوز من السوق ليشهد بانه هو الرجل قائد المعارضه ويعرض طلباته الشخصية المكشوفة على الملك شهريار، بأنه يرغب في اراض وأموال له شخصيا، ولمعرفة شهريار بكذب الوزير وتوغله في البلاد، يكشف له بعد أن ترك الرجل العجوز ليحكي للوزير أن ألاعيب الوزير قد انكشفت وقربت نهايته، والملك شهريار يذهب ليكمل دور الرجل العجوز الحقيقي في السوق، ويقف مع الناس، ولكن هذا الأمل الأخير لا يتحقق له، فيصيبه الحراس برصاصات تودي بحياته في الملابس التنكرية للرجل العجوز على أسوار قصره" قائد الشرطة: (باكيا) بل كان المقتول هو الرجل العجوز، والرجل العجوز كان الملك شهريار، الرجل العجوز هو الملك ذاته، قتل الرجل العجوز اقصد قتل الملك. الوزير: (يصاب بذهول حد الجنون) ماذا؟! مستحيل، يا لهذه الأقدار..... وقطرات الدم لا تنسكب منفردة، هي كسلسلة الحديد يعضد بعضها بعضا، والأرض لا تشرب الدم، والسماء تعاقب من يسفكه" فينطلق صوت من الخارج مؤذنا بدخول الملك وهو الطفل الصغير ليجلس على كرسي الملك وينحني الوزير أمامه قائلا" أوامركم مولاي الملك" في دوران الأحداث والشخصيات والأفعال تنتهي المسرحية بخاتمة هي بداية لأحداث أخرى يستطيع المتلقي أن ينسج حكاياتها الجديدة القديمة وأن يتصور حجم ما ستؤول به الثقة في البطانة التي تحيط بكل جالس جديد على العرش.

د. سعيد محمد السيابي