فن الخزف الذي يتربع في البرزخ الفاصل بين الفنون التشكيلية والتطبيقية والحرفية هو في حقيقة الأمر أحد ألوان الثقافة البصرية المعاصرة بما يخطه من توافق وانسجام قائم على عناق الماضي للحاضر والتجديد للموروث والابتكار للخبرة خاصة بعد الطفرة العلمية الحديثة التي غذّت العقول والأيدي بدفق من الإلهامات الروحية العميقة المحرضة على الابتكار والإضافة. فنان اليوم هو أحد أولئك الشباب العُماني الطموح في حقله المبدع في أفكاره وأطروحاته الخزفية يغزلُ من الطين والأكسيد قِصَصَاً لا تنتهي من الأشكال والإيقاعات الصلصالية فتحمِلُ كُتَلَهُ الخزفية ارتباكات تستحيل إلى إبداعات تحفر الأمكنة وتحرق الكُتل الطينية بعد أن يسحرها بيده وعقله، أحمد الشبيبي تشكيلي نهل الفن من منبعه الأكاديمي واحترف الخزف فتألق في أشكاله لما يحويه من قيم فنية وتعبيرية مفتوحة الأفق وظل يُقدمها للمتلقي منذ فترة بمفاهيم شكلية معاصرة في الفكر والفلسفة تارة على لوحات مسندية وتارة كقطع مجسمة، وقد استطاع هذا الفنان مع عدد من أقرانه النهوض بمستوى الخزف في السلطنة وتقديمه برؤية متجددة من حيث بنائه الشكلي الجامع بين التعبيرية والرمزية إضافة إلى ما اشتمل عليه من أساليب تقنية متنوعة رفعت من قيمة العمل الخزفي جمالياً وتقنياً. فالشبيبي رحل بعيدا بالصلصال فلم تعد هذه الخامة تحدد وظيفتها المعهودة فحسب بل أصبحت إحساساً يقلبها في يده على هيئات مختلفة في البناء والتجريد بألوان ابتكارية مميزة وفي أشكال رمزية تهتم بالملمس وتتيح التعبير عن الحركة والكتلة في آن واحد. وقد اخترت له من بين تجاربه الفنية الكثيرة هذا العمل الذي يحمل استعارات فنية تعطي خطاباً بصرياً لشكل ثعبان الكوبرا في التواء جسدها وحركة رأسها الهجومية، فخصوصية فن الخزف ومساحة التعبير فيه مكنت الشبيبي من أن يُطوع الخامة ويبنيها كأسطوانات متوازية ثم يعانقها بحركة التوائية تنتج من بينها فراغات تتنفس الكتلة من خلالها وتكسر إيقاعها الجامد ثم يثني عُنقَها الأخير ليصور لنا حركة الرأس في خيال متعاظم مع شكل رأس الكوبرا، وفي لقطة ثانية تجده يصقل بعض أجزاء العمل في إشارة منه إلى نعومة جلد الثعبان وانسيابيته ليتحرك بخفة بين الأحراش وقام بمعالجة أجزاء أخرى منه لتعطي شكل الخشونة والبتر بقسوة حتى يدلل على شدة الألم الذي يُحدثه هذا الكائن الجميل شكلاً والخطير فِعلاً على جسد فريسته، وقد لعب الفنان على درجة اللون الواحدة وقدمها بشكل احترافي مُبهر فسقوط الإضاءة على الكتلة الشكلية المجسمة من زوايا مختلفة تجعلك في انتعاش مُستمر وإحساس متواصل مع فكرة العمل حيث تلعب الدرجة اللونية مع الإضاءة نفس الإحساس الذي يظهر على هذا الحيوان في الواقع أثناء حركته بين الأشجار، وهكذا لعب الشبيبي على خصوصية فن الخزف الذي يختلف عن فن الرسم والنحت كونه يمتاز بالثبات شكلاً والحركة إحساساً في آن واحد فبات نظام الصورة يشتغل عنده برؤية تضمن إحداث حالة من القيم التعبيرية المؤثرة على المتلقي ضمن مساحة تنشط فيها الأفكار وتفصح عما يدور في ذهن الفنان بمنطلق تشكيلي خارج المألوف.

عبدالكريم الميمني
[email protected]