رواية الوجع الكوزموبوليتاني

عادة ما تُفتتح القراءات أو المراجعات لأي رواية، بعنوانها، أو بأول مفتتحاتها، كعتبة أولى للنص. ورغم أنني أمام رواية بعنوان لافت، وحمّال أوجه، ورغم أنني قبالة مدخل جريء للرواية، وإزاء بداية ذكية لها، لكنني هذه المرة، وفي هذه الرؤية لرواية الجزائري سمير قسيمي (حب في خريف مائل)، سأنطلق من عبارة وردت على لسان (قاسم) الشخصية المركزية في الرواية وهي (الحيلة الكاملة ليست إيهاما مطلقا، بل حقيقة كاملة مع بعض الإيهام).
فقد شكلت لدي هذه العبارة، تلك الصخرة التي أحدثت التماسك ببيت الرواية، وجعلتها قادرة على الصمود، والصيرورة، وبالتالي جعلتني أدرك على نحو ما، ما الذي يرمي إليه قسيمي، من وراء روايته حديثة الصدور هذا العام، عن داري ضفاف اللبنانية، ومنشورات الاختلاف الجزائرية. ففي نهاية كل عمل روائي جيد لابد أن يصل القارئ إلى ما تصبو الرواية أن توصله إلى إدراكه، وبالتالي الرهان على قناعاته.
إلا أن (حب في خريف مائل) تذهب إلى القارئ بأدوات لم يعتد عليها، وهي جرأة السؤال، والإجابة. وهنا تبدو الرواية - أي رواية - كمقترح إنساني، يرفضه من شاء، ويقبله من شاء. فقسيمي في عمله الروائي الجريء هذا، يقترب من ذائقة القارئ العربي، الذي لا يزال حائرا أمام مفاهيم كثيرة كالدين والجنس والسياسة، ويأخذه دون أن يعي إلى فضاء المساءلة، وبالتالي محاورة المصائر الإنسانية، بكل طهارتها وخطاياها. إذ قدم قسيمي للقارئ العربي شخصيات معافاة من رهاب الاقتراب من التابو، تشرع الآن بقول كلمتها قبالة مشهد إنساني غامض، وملتبس ومليء بالإشكالات.
تقوم (حب في خريف مائل) على سلسة من الحيل، الفنية، والسردية، واللغوية، والنفسية، والفلسفية، كما درج قسيمي في أعماله الروائية السابقة - إذ أعتبرها برأيي الخاص امتداداً تسلسليا لمشروعه الروائي - بحيث يبقى القارئ يقظاً، ومنتبهاً لكل مفردة، وعبارة، لأنها في المحصلة، ستؤدي إلى تشكيل ملامح الصورة، التي عادة ما يبدأها ببرودة رقم الصفر، صعوداً إلى تسارع الأرقام نحو السخونة، ثم السقوط مرة واحدة إلى الهاوية، وبالتالي إحداث نوع ما من الصحو المصحوب، بأسى مرده مرارة الواقع العربي.
تستلهم الرواية حكاية (نور الدين بوخالفة) العجوز الثمانيني، والعجوز (قاسم) الذي يناهزه بالعمر، ضمن حيلة سردية تفضي إلى حوارات طويلة، تغدو بمثابة نص روائي، يقال بضمير الأنا، لو اختزلنا مقدمات الشروع بالقول، قبل كل حوار. إذ يروي قاسم حكايته، لنور الدين بوخالفه، بعد أن عرفه في يوم خرج فيه، تحت تأثير أسئلة ومشاعر وجودية، حول الموت والحياة، ومصيرها إن خلت من الحب. فيأتي ما يرويه (قاسم) كجواب على أسئلة الأزمة التي يمر بها بوخالفة. بحيث تنتفي الفوارق بين الشخصيتين، ليصبح قاسم هو نفسه بوخالفه، ويصبح الإثنان هما نفسهما سمير قسيمي، الذي أشار في مدخل الرواية، في (شيء يشبه الإهداء) إلى أنه يخوض في عوالم مظلمة في نفسه، وهي التي ستجنبه نعت الروائي المتخلق، رغم أن سمير قسيمي، أشار في غلاف الرواية أنه (كتبها نيابة عن نور الدين بوخالفه) لكنها في الواقع حيلة روائية جميلة، أسندت فكرة أن بوخالفة في نهاية الرواية ربما يعمد إلى كتابة ما سمعه من قاسم، وذلك بملء مخطوطة (الجدار) التي تعمد عبد الله الطرشي صديق قاسم أن يتركها فارغة، وذلك كإحالة مهمة إلى لا جدوى حقيقة الحياة بلا حب، وبالتالي هنا تتداخل الشخصيات أكثر، فيبدو قسيمي هو نفسه بوخالفة، كما لو أنه يذهب نحو مستقبله وبالتالي إلى مستقبل الفرد العربي، الذي يبدو تائها في ظل التحولات العالمية، وفشل مشروع التحرر العربي قديماً وحديثاً.
لكن القارئ في بداية الرواية لا يجد الشيء الكثير عن نور الدين بوخالفة، غير أنه رجل يصحو من نومه ويغادر البيت بسبب إحساسه بأن أحدا ما يحدق به وهو نائم، إضافة إلى وذلك القلق الذي بات يساوره لتقدمه في السن وبالتالي انتظاره للموت. إذ تهيمن شخصية قاسم على الرواية، فهو صاحب شخصية عبثية لرجل يعيش في سيارته، التي هي مصدر رزقه ومسكنه، فلا بيت له.
يمضي قاسم جل وقته في القراءة ممتلكاً وعياً مغايراً، وعلاقة ملتبسة بالمرأة ، إذ يقيم علاقات شبه يومية دون شعوره بالحب، حتى أنه يجد في نفسه امكانية التخلي عنها، بما أن الرغبة قابلة للتحقق من دونهن. فهو يتسلح برؤية خاصة عن الحب، والوطن والدين. مستعيناً بما تلقاه من وعي مرده علاقته بصديقه عبد الله الطرشي، الذي عاش زمناً في روسيا أيام الاتحاد السوفييتي، وفي الجزائر، والهند، وأمضى زمناً يبحث عن الله، وعن إجابات كثيرة لأسئلته. تتضح رؤية قاسم للحياة، عبر منظار عبد الله الطرشي، ويبدو قد تبنى قناعاته، وآمن بها، وراح يمضي حياته مستعيناً بها، محاولاً تجاوز إشكالية علاقته بأبيه وأمه اللذين شكلا ذلك الجانب الغامض في شخصيته، بعد حادثة حب وقتل، تجابه عقيدة المنظومة الاجتماعية. لكن حياة قاسم تأخذ منحى آخر بعد أن عرف (لبنة) - التي يكتشف، فيما بعد، أن لها اسماً آخر وهو (جميلة)- حيث تبدأ علاقتهما في القطار، فتكشَف الدواخل النفسية للشخصيات بجرأة، لا ترتهن للثالوث المحرم.
منذ ذلك اللقاء يأخذ الحب يتشكل لدى قاسم، ويشكل حياته من جديد رغم توغله في العمر، وتبدأ يقينياته نحو الحياة تتبدل، ليتحول في نهاية الأمر إلى كائن رغم تصالحه مع نفسه، إلا أنه يخرج على مسارات كانت تحيله إلى شخصية نمطية.
تتشابك الشخصيات بعضها ببعض، وتتقاطع المصائر، وتحدث المفاجآت، لنكتشف أن قسيمي رغم تعدد الشخصيات في الرواية، إلا أنه في واقع الأمر يتحدث عن شخصية واحدة، لا ترتهن للتجنيس ولا للأقلمة، بل تأخذ بعداً كوزموبوليتانياً، وهذه من وجهة نظري إحدى أهم سمات العمل الروائي الناجح، وهو أن تشعر أن هذا العمل يعنيك وحدك، وأن الروائي أنجزه لأجلك، أينما كنت من بقاع هذه الأرض.
قلما نجد في عالم الرواية أن كامل عناصرها، تحمل بعضها البعض. ففي روايات ما، تقوم اللغة بحمل الرواية على كاهلها، وفي أخرى تقوم الحكاية على حمل اللغة وباقي عناصرها، وفي روايات باقية، نجد الفكرة هي من تضطلع بهذه المهمة، لكن حب في خريف مائل، حظيت بتضافر أغلب عناصرها، بحيث تصير اللغة بطلاً، والفكرة بطلاً، والحكاية بطلاً، فكل تلك العناصر في حب في خريف مائل، منحت المحمول الفلسفي في سمة الشرعية، وجعلت الخروج على الثالوث المحرم منطقيا، وغير محشو.
أتت اللغة بعيدة عن التكلف، والإيغال في منمنمات غير ضرورية، بل وجدتها امتداداً لعدم موت الشاعر لدى سمير قسيمي الذي بدأ شاعرا، فناصر الشاعرُ الروائي في عمله هذا بخلاف أعماله السابقة. لكن روح السخرية، التي تثير ضحكة طويلة في آخرها شهقة البكاء، واضحة في النص الروائي، لهذا ربما ينفر القارئ، من كثير من الألفاظ، دون أن يعي أنها ضرورية وستحدث الأثر حين اكتمال مرحلة التلقي.
أما الحكاية فقد أخذت حقها من البعد الدرامي الذي حظي بعناصر تشويق يبرع بها قسيمي، كان لها وخاصة في الفصل الأخير، القدرة على جعل القارئ، يذهب إلى أكثر من التعاطف، مع حكاية العجوزين نور الدين وقاسم، وبينهما الحب المتمثل بجميلة، التي تعلن الحيلة الروائية عن كونها ابنة لبنة، وعبدالله الطرشي، وسجينة فريد الذكوري المتسلط، الذي يقتل على يد قاسم بعد موت جميلة بسرطان الدم، إذ تنتهي الحكاية بانتحار قاسم، بعد أن منح نور الدين بوخالفة مخطوطة الجدار، بأوراقها الفارغة إلا من أرقام الصفحات، ليصل القارئ إلى تساؤل مفاده، من كتب (حب في خريف مائل) هل هو نور الدين بوخالفة، أم سمير قسيمي، ومن هو صاحب كل هذا الوجع الكوزموبوليتاني.

جلال برجس
شاعر وروائي أردني