[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
” .. بلادنا تونس مهددة بانشطار ثان أخطر وأشد حدة وهو ما بدأنا نرى أشباحه تطلع علينا من قمقم الحسابات الشخصية والمطامع الحزبية حيث قسم البعض من السياسيين سامحهم الله تونس إلى شمال وجنوب وإلى جهات مرفهة وجهات محرومة وهو تقسيم جائر إذا ما ألبس هؤلاء الباطل بالحق وهذا الانشطار يهدد وحدتنا ويهدم ما بناه أجيال من التوانسة...”
ــــــــــــــــــــــــ

ما معنى الانشطار لغويا؟ هو كما يفيد مصدره (شطر يشطر) انقسام جسم أو شعب إلى شطرين وفي أغلب الأحيان إلى شطرين متساويين ليكون التصادم بين الشطرين مأساويا فيصبح بقاء الأول لا يضمن إلا بزوال الثاني لأنه لا غلبة لشطر على شطر وهو ما يشكل توازن قوتين متساويتين متصادمتين وفي الحقل السياسي يصبح الانشطار أخطر وأعنف وليس المجال مناسبا للخوض في طبيعة العنف في البشر كما بين ذلك الفيلسوف (هوبز) وهو عنف غريزي تهذبه الثقافة المكتسبة أو يردعه القانون العادل. هذا ما نحن نرصده مع الأسف في مجتمعات عربية مرت بتجربة ما يسمى بالربيع العربي وأنا أنسب هذا الداء العضال داء الانشطار للعرب دون سواهم مع الأسف في عصرهم الحديث لأن شعوبا أخرى تجاوزت حالة انشطارها واجتمعت على قلب رجل واحد في فيدراليات سلمية وممارسات ديمقراطية وخذ مثالا على هذا النجاح مملكة بلجيكا فهي مكونة من ثلاثة أعراق لكل واحدة منها لغة وتاريخ وتقاليد وسبق أن تحاربت وتعادت ثم اكتشف هؤلاء أن بقاءهم رهين وحدتهم فأجمعوا على تشكيل فيديرالية تتعايش فيها شعوب ثلاثة هي شعب الفالون وشعب الفلاندر وشعب بروكسل ويتكلم مواطنو المملكة ثلاث لغات هي الهولندية والالمانية والفرنسية لكن راية بلجيكا تخفق فوقهم وتضمهم وملكها يملك ولا يحكم فهو رمز لسيادة ووحدة وطنهم. وما أبعد العرب عن هذه الروح! بحيث كلما ذكرنا العرب بمحاسن الفيديرالية إلا و اتهمتنا أصوات ديماغوجية بمعاداة الوحدة والعمل على تقسيم الأمة!
لاحظوا معي أيها القراء الأفاضل ما يحدث في تونس! تونس التي نفتخر بأنها اجتازت العقبة وما أدراك ما العقبة بسلام وبأقل التكاليف بالمقارنة مع جاراتها وشقيقاتها العربيات: ليبيا التي تغرق في مستنقع الميليشيات وتتوزع شيعا بين القبائل ولعلها أضاعت ما كان يمكن أن تجنيه من ثمار ثورتها على الاستبداد والجنون بعد معاناة 43 عاما من الارتجال والكلام الأجوف وتبذير ثروات الشعب الليبي الكريم وسوريا الشهيدة بأربعة أعوام من التقاتل الضاري والبراميل المتفجرة واستمرار عجزين واضحين: عجز المعارضين بكل أطيافهم عن الإطاحة بنظام الأسد ويقابله عجز النظام عن إلحاق الهزيمة بالمعارضات وظل السوريون المعذبون في الأرض في حالة يرثى لها من العوز وفقدان الأمن واللجوء هربا من الموت إلى بلدان الجيران التي تنوء بحملهم ثم يليها العراق الممزق إربا إربا بين الطوائف والذي لم يعد فيه أحد يميز بين الجلاد والضحية وبين الحق والباطل حيث كتب الله أن يعود شبح المارينز لبلاد الرشيد بكل تاريخ الاحتلال الأميركي الأسود من إغتصاب الحرائر إلى عذاب أبوغريب إلى ترويع البلاك ووتر وقد سقطت الموصل ومدن أخرى في أيدي جماعات ملأت فراغا تركته الدولة واغتنمت الظلم الطائفي لتوقد النار في هشيم بلاد الرافدين وصولا إلى اليمن المدنس بحروب لا حرب واحدة وبانشطارات لا انشطار واحد بين شمال وجنوب وبين حوثيين وقاعدة وبين دولة تترنح ولادولة تهدد بالفوضى وانتشار الفتنة
واليوم بعد عشرين سنة من الوحدة التي حققها اليمنيون بتضحياتهم وبدمائهم فقدوا أمنهم حيث أصبحت فيه العصابات هي الحاكمة عوض الدولة.
ونأتي إلى النموذج الناجح ونكاد نقول اليتيم في العالم العربي وهو المثال التونسي تونس التي وقفنا ووقف العالم معنا إجلالا لنجاح تحولها من الاستبداد إلى دولة وفاق ومن هياكل القمع والتعذيب إلى مؤسسات دستورية. تونس التي اعتبرت نخبها واعتبر شبابها بأخطاء الماضي ما قبل الثورة وما بعدها فأصلحت حالها وعوضت في منابرها السياسية اللكمات بالكلمات وعوضت الانفجار بالانفراج وأراد الله سبحانه أن يبتليها باستشهاد شباب من خيرة أبنائها البررة فتقبل شعبنا إرادة الحق تعالى بصبر ومزيد من العزم على الوحدة والسلام المدني ونبذ العنف. هاهي تونس مهددة بخطر الداء العربي العضال الذي اسمه الانشطار أي الانقسام إلى شطرين وهو ما اكتشفه التوانسة مع المحطات الانتخابية (التشريعية وخاصة الرئاسية) خلال أسابيع من حياتهم فانطلقت الحناجر بالسب والشتم والسعي إلى الفتنة تكريسا رهيبا للانشطار: انشطار تونس لن يكون بين سنة وشيعة فنحن جميعا سنة مالكيون بل هو كما يبدو بين إسلاميين (أي في الحقيقة مواطنون مسلمون متمسكون بالهوية) وعلمانيون (أي في الحقيقة مواطنون مسلمون ينتمون بالفكر وبالولاء للغرب) وبلادنا تونس مهددة بانشطار ثان أخطر وأشد حدة وهو ما بدأنا نرى أشباحه تطلع علينا من قمقم الحسابات الشخصية والمطامع الحزبية حيث قسم البعض من السياسيين سامحهم الله تونس إلى شمال وجنوب وإلى جهات مرفهة وجهات محرومة وهو تقسيم جائر إذا ما ألبس هؤلاء الباطل بالحق وهذا الإنشطار يهدد وحدتنا ويهدم ما بناه أجيال من التوانسة من بناء وطني شامخ حين التحم شعبنا ضد الإستخراب الفرنسي ( المنعوت خطأ بالاستعمار) على مدى عقود من الكفاح والمقاومة المسلحة أيام كان شعبنا بكل فئاته يرزح تحت نير استخراب صليبي استوطن أرضنا والتحف سماءنا ونهب خيراتنا وحاول تدمير ذاتنا ولغتنا وردنا عن ديننا بحيل التجنيس والانصهار في ثقافته بدعوى تمديننا كأنما شعبنا ينتمي إلى قبائل الماو ماو البدائية وكأننا لم نساهم في حضارة الإنسانية بعباقرة مثل القديس أوغستان الذي جدد الديانة المسيحية في القرن الرابع م ومثل الأبطال حنبعل وأميلكار ثم وخاصة بعد نعمة الفتح الإسلامي برجال أمثال الفاتحين عقبة بن نافع وطارق بن زياد وبأطباء مبدعين أمثال ابن الجزار وبعلماء لغة عربية قوية أمثال ابن منظور صاحب لسان العرب وبعلماء فقه القانون أمثال الإمام سحنون بن سعيد التنوخي وبأكبر وأول علماء الاجتماع وفلسفة التاريخ أمثال العلامة عبد الرحمن بن خلدون وبأبرز علماء المالكية عبد الله بن أبي زيد الملقب بمالك الصغير وصولا إلى أبي القاسم الشابي ومئات العباقرة الباقية أسماؤهم مدى الأجيال. وبعد ملحمة التحرير من الإستخراب قام التوانسة ببناء دولة حديثة أنشأت أجيالا من الشباب المتعلم وذوي العقول المفتوحة ولم يفلح ميل الزعيم بورقيبة للفرنكوفونية واستيراد قوانين اجتماعية دخيلة في تفكيك انتماء تونس لأصالتها كما لم تفلح منظومة استبداد العهد البائد في تهرئة الدولة وتقسيم الشعب. كل هذه المكاسب الغالية نراها اليوم في مهب الريح معرضة للزوال وقد نسي الشعب التونسي ربما ما ذكره به وزير الداخلية لطفي بن جدو منذ أيام من أن بلادنا تقع في محيط جغرافي وحضاري مشحون بالفوضى والعنف وعلينا ألا نفرط في وحدة شعبنا لتنجو سفينتنا من الغرق. لكننا نسجل مع الأسف أن من كنا نحسبهم جميعا اتضح لنا أن قلوبهم شتى كأنما يذكرنا حالهم بالأية الكريمة من سورة الحشر: بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون . صدق الله مولانا العظيم.