[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]
” .. ما زلت أتذكر الأيام الأولى للحياة وما يحكيه جيل الآباء من قصص وأمثلة ومواقف تصور تلك التربية الصارمة وأساليبها ومجالاتها وغاياتها درجة أنها ترقب طريقة جلوس الأبناء في المجالس العامة أو الخاصة والتي لا ينبغي بأي حال من الأحوال إلا أن تكون متفقة مع الهيئة المتعارف عليها والتي توارثها الآباء عبر أجيال وأزمنة,”
ــــــــــــــــــــ
” ما أن يحل المساء حتى يبدو هلال الجبال والتلال متلألئا, والمساحات الخضراء والذهبية والبنفسجية تذوب في شفافية قريبة من شكل السماء ... ” من كتاب عمان لمؤلفه Michele Barrault
الشخصية العمانية:
لعبت السمات التي تحلت بها الشخصية العمانية دورا أساسيا في نجاح العمانيين وبروز دورهم التاريخي والحضاري, وتقدمهم العلمي والسياسي والتجاري والقيادي وتحملهم للصعاب والمشاق, وتجاوزهم للكثير من التحديات والظروف الحياتية في سبيل بلوغهم للأهداف والغايات الكبيرة التي رسمت تاريخهم طوال العقود والمراحل السابقة ووضعتهم في مصاف الشعوب والمجتمعات التي زاحمت وجاهدت وساهمت بقوة , فضمنوا لهم مكانا يليق بهم لما قدموه من أعمال خالدة, ويعود الفضل في نجاح الشخصية العمانية واسهامها البارز وقدرتها على التعاطي مع ظروف الحياة والبيئة التي استوطنتها وتميزها وشهرتها وتجاوبها مع المعطيات والمستجدات السياسية والاقتصادية والثقافية, في تلك التربية الصارمة والجادة التي مارسها الآباء وتعاهدوها وتوارثوها جيلا بعد جيل, في الاشراف المباشر والمتابعة الدقيقة لكل حركة وسلوك يأتيها أبناؤهم وملاحظة طبيعتهم ومدى تجاوبهم وقدرتهم على التطور والتعلم والتأقلم مع البيئة وادراكهم المبكر لمضامين التعليمات والثقافة المحلية من قيم ومناقب ومثل ومعاملات, والعمل من ثم على تقويم ما انحرف عن الجادة والهدف بالتنبيه أو الانذار الشفوي أو بالضرب أو الاستعانة بالمعلم أو العمل الشاق .. وجميعها تأخذ صفة التدرج والمتابعة والتقييم, ومن أهم ما ميز تلك التربية في أسلوبها أنها اعتبرت بمثابة مهمة جماعية يشارك فيها الأب والأخ الكبير والعم والمعلم والجار كلما تتطلب الأمر ذلك وفي حالة أن الأب كان غائبا, فكلهم معنيون بإصلاح النشء وتربيته وتهيئته للحياة, ويشعر الأب بالسعادة الغامرة عندما يكفيه واحد من هؤلاء تربية وتقويم ابنه متى ما رآه في موقف يحتاج إلى ذلك ولن يتردد في تقديم الشكر لمن قام بهذه المهمة .. وما زلت أتذكر الأيام الأولى للحياة وما يحكيه جيل الآباء من قصص وأمثلة ومواقف تصور تلك التربية الصارمة وأساليبها ومجالاتها وغاياتها درجة أنها ترقب طريقة جلوس الأبناء في المجالس العامة أو الخاصة والتي لا ينبغي بأي حال من الأحوال إلا أن تكون متفقة مع الهيئة المتعارف عليها والتي توارثها الآباء عبر أجيال وأزمنة, إن الجالس في السبلة أو في الأماكن العامة يجب أن يكون حريصا على أن لا يصاحب جلسته شيء من كسل واسترخاء أو تململ أو تغيير للجلسة بشكل متواصل يوحي بالضعف والتعب وينتقص من هيبة الجالس وهيبة المكان وهيبة من هـم أكبر سنا, أو يعتريها هزل وهمز ولمز وضحك تخرج الإنسان من حال الوقار والرزانة والاتزان والانضباط, وإلا كانت العقوبة شديدة, إنها أشبه ما تكون بتربية عسكرية محضة, وينسحب ذلك على آداب الطعام في الحرص على عدم تصويب النظر إليه اشتهاء وتلهفا, والتعامل معه بضبط اللقمة في حجمها وفي سرعة تناولها وأخذ الوقت المطلوب قبل إلحاقها بالثانية والتوازن في الكمية المتناولة في عمومها اتساقا مع الأعراف والتقاليد والآداب لا مع نوع الأكل ولذته والرغبة فيـه, وذلك حرصا على عدم ترك انطباع سلبي عند الآخر المشارك له في الطعام ضيفا أم قريبا بأنه فاقد للصبر والتحمل يظهر اشتهائه وجوعه أمام الآخرين بمظهر لا يليق بالرجال الأشداء, كذلك فإنه من المعيب جدا تناول الطعام في الأماكن العامة في الأسواق والطرقات .. وكذلك هو الحال في الملبس في لونه وشكله, ومع آداب تبادل التحية والسلام والتحدث مع الآخرين ومخاطبتهم, وفي الحفاظ على العادات والقيم والثقافة العامة للمجتمع في المناشدة (السؤال) عن الأخبار والعلوم وفي اكرام الضيف وتقدير الأكبر سنا, وفي التعلم وملازمة الصلوات في المسجد, وفي حفظ القرآن أو بعض آياته, وفي العمل الجاد والحرص على اكتساب مهنة يعتاش منها وإن كان في حكم الغني غير المحتاج ولكن من الأهمية بمكان أن يعد الإنسان للظروف الناشئة وغير المتوقعة.. مما ورد في كتاب جوهر النظام للامام نور الدين السالمي في هذا المعنى:
وما زكى في المرء من خصال يعرف بالآداب في الأحـوال
فحليـة الرجال معنـى الأدب وحلية النساء لبس الذهـب
والمرء معروف بما قد اتصف به فكن ممن بخير قد عرف
والفخر فيما بيننـا في الأدب والدين لا في غيره من نسب
وكان لموقع عمان الوطن, البحري والجبلي والصحراوي وما يتطلبه التعامل مع هذه الجغرافيا من شدة وصرامة وصبر وقدرة على التحمل لتحدي الظروف والتعامل مع قساوة الأرض عاملا مهما في تكوين الشخصية العمانية وتميزها بالصلابة والشدة والحنكة والحكمة والرزانة والقوة والانضباط, (( البيئة العمانية ذات التضاريس المتنوعة, والثنائيات المتداخلة والمتناغمة والمتزاوجة, في الصحارى والسهول والجبال والبحر, قد لونت سلوكيات العمانيين, وشكلت شخصيتهم , ومنحتهم مناقب مميزة .. )), وهو ما ساهم في قيام الحضارة العمانية وحمل العمانيين إلى السفر وخوض غمار المخاطرة وركوب البحار والمحيطات قادة عسكريين ودعاة سلام وتجار ومكتشفين وطلبة علم نشروا الإسلام وحملوا ثقافة التسامح والسلام والخير والحوار, وتبادل المنافع والمصالح والعلم والمعرفة مع شعوب العالم . هذه الأرض الشاقة بجبالها الصلدة الشاهقة والتربية الصارمة التي اتبعها العماني في تربية أبنائه نتج عنها شخصية جادة في تعاملها مع مفردات الحياة وعناصرها المختلفة تمتعت بالاحترام والتميز, يظهر ذلك أولا: في استجابة العمانيين لدعوة الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم دون قيد أو شرط أو الحاجة إلى إسالة قطرة دم واحدة دليل قدرتهم على تمييز الحق من الباطل وفهمهم المباشر وقراءتهم المتميزة لغايات الرسالة وأهداف الدعوة وما تضمنته من خير وصلاح للإنسان, ومن يعرف شجاعة العمانيين وتفردهم وعشقهم للحرية درجة المخاطرة والهجرة إلى مناطق أخرى وتجشم مرارة الفراق جريا وبحثا عنها, وتمسكهم بمبدأ الاستقلال التام والاستماتة في دفاعهم عن أنفسهم ووطنهم والنأي به حتى عن التبعية المباشرة لمظلة الخلافة الإسلامية عبر مراحلها الزمنية الطويلة ومع تعاقب أسرها وحاضرتها من دمشق إلى اسطنبول مرورا ببغداد, لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعزوا إسلام العمانيين إلى الخوف وطلب السلامة, خاصة وأن عمان بعيدة كل البعد عن مقر الدعوة, وما يحيط بها من ممالك وإمارات ومجتمعات ما زالت تقاوم وتعاند وتكابر وتعادي الدعوة الإسلامية وتشهد ارتدادا عن تعاليمها .. وقد ظلت الدولة العمانية لقرون طويلة تستنزف طاقاتها من أجل هذه الغاية النبيلة والهدف السامي, وعندما نجحت تلك المحاولات في مراحل زمنية محدودة للغاية هاجرت الأسر الحاكمة ومن والاهم واتبع طريقهم بحثا عن مناطق يشعرون فيها بالحرية والاستقلال والترحاب وامكانية أن ينشئوا فيها حكما مستقلا فغادروا إلى مناطق شرق إفريقيا وأقاموا دولا وممالك ونظما متطورة وتركوا معالم وثقافة ونشروا الإسلام هناك وأسسوا لامبراطورية عمانية .. ثانيا: لم تثبت المراجع والكتب والأبحاث التاريخية ولم تشر لا من قريب ولا بعيد على أن العمانيين قد وظفوا قوتهم أو جردوا سلاحهم أو شرعوا في التدخل في شئون غيرهم أوفي التعدي على دول من الدول أو شن حرب على مجتمع من المجتمعات إلا في إطار الدفاع عن وطنهم وتطهير المنطقة من المستعمر. ثالثا: ترك العمانيون إلى جانب ما تم ذكره مكتبة غنية بالأبحاث والدراسات والكتب في مختلف العلوم والآداب والمعارف وقدموا انتاجا غزيرا لم يتوقف جريانه طوال القرون الماضية وحتى اليوم وهو ما يؤكد على هذا النبوغ والتميز, هذا فضلا عن الآثار وفنون العمارة التي تقف شامخة في مختلف الحواضر والقرى العمانية, وقدمت الشخصية إلى العالم قادة أفذاذا وعلماء كبارا وتجارا محنكون ودعاة مخلصون وشخصيات نبغت في مختلف المجالات لم يقتصر دورها وأثرها وانتاجها على الداخل وفي المحيط بل سبقت سمعتهم ووصلت أقدامهم وانتهى بهم المقام على شواطئ المدن والممالك الصينية والقارة الهندية والشرق الآسيوي وأدغال افريقيا والمناطق الأوروبية والاميركية,(جابر بن زيد – الخليل بن أحمد – مالك بن فهم الازدي – الجلندي بن مسعود – مازن بن غضوبة – المهلب بن أبي صفرة – ناصر بن مرشد اليعربي – المبرد أبو العباس محمد بن يزيد – أحمد بن سعيد – أحمد بن نعمان – أبو عبيدة عبدالله بن القاسم – أحمد بن ماجد – سيف بن سلطان اليعربي – الصلت بن مالك – محمد بن الحسن بن دريد – سعيد بن سلطان – أبو مسلم البهلاني – كعب الأشقري ـ صالح بن علي الحارثي – نور الدين السالمي ....) , ويمكن الرجوع إلى الموسوعة العمانية وكتب التاريخ والأعلام للتعرف عن قرب على هذه الشخصيات وإنجازاتها الكبيرة, وهم من حيث العدد ما يحتاج إلى مجلدات لحصرهم والكتابة عنهم, وها هي الأبحاث والدراسات والاكتشافات الحديثة تعطي لتلك الجهود والأعمال الفذة ما تستحقه وتظهر حقيقة ما قدمه العمانيون للحضارة الإنسانية وأسبقيتهم في نشر الإسلام وفي طلب العلم وتعليمه للآخرين ونبوغهم في التجارة وفي صناعة السفن وقيادتها والقدرة على التعامل مع المحيطات والبحار وركوب المغامرات وحب الاكتشاف وفن التعامل مع الآخر, وقد فرضو احترامهم وحب الناس لهم وهو ما نراه حاضرا في كتابات وشهادات السياح والباحثين والاكاديميين والمسئولين الذين زاروا ويزورون عمان من فترة إلى أخرى فيفاجأوا بأخلاق العمانيين وسماحتهم ورقة تعاملهم وأمانتهم, وما كان لهؤلاء أن (( يظهروا إن لم تكن البيئة التي عاشوا في أكنافها مهيأة لأن تشعل فيهم جذوة الخلق والإبداع ليتميزوا في الشعر والأدب والفقه .. بيئة جعلت العماني من الأعراب والبدو يتميز بفصاحة اللسان وقوة البيان وسرعة البديهة, والفراسة والحضور .. )) مكي الحاج عربي. فهل يعي العماني اليوم تلك الانجازات الكبيرة التي قدمها الآباء, وهل يدرك سـر الشخصية العمانية وتميزها الذي أشـرنا إليه باقتضاب وإلا فإن تفصيل ذلك وشرحه وتقديم الأمثلة عليه مما يتطلب مجلدات من الكتب؟ وهل ما زلنا متمسكين بتلك المثل والمناقب والسمات, والتربية قد تراجعت قيمها وقسوة الحياة وشدتها تحولت إلى رخاء ويسر وكسل وراحة, وكل شيء معد وجاهز مع توفر الخدمات والوسائل والتقنيات الحديثة , وأصبح العماني معتمدا في تسيير حياته وإدارة قطاعاته وأعماله وفي خدمته وقضاء حاجاته على الآخرين , وفي تعليمه وتوظيفه ومعيشته وخدماته على الحكومة ؟ ((الانضباط ممارسة يومية ولا يمكن أن نقرر أن نضبط في عمر متأخرة لكي يحدث الانضباط , وبلا انضباط لا يمكن أن تستقيم حياة)), ألا ينبغي أن نتعلم من شخصية الآباء ومن دورهم وحياتهم وقيمهم ومبادئهم وتعاملهم مع الآخر في حياتنا التي تتهاوى فيها القيم والمبادئ وتضعف الشخصية فـي وجاهتها ومهابتها وما تفرضـه من احترام على الآخرين ؟, (( الأولاد منذ أن يدخلوا المنزل يرمون بكل شيء في أيديهم , ثم يصيح الصبي ذو العاشرة في وجه الخادمة الآسيوية .. أطفالنا ما أطول ألسنتهم أمام أمهاتهم والخادمات .. من لا يتعب لا يحس بطعم الراحة ومن لا يجوع لا يحس بطعم الأكل, والخصال والقدرات إذا لم تبن وتزرع مع الزمن فإنه من الصعوبة بمكان استعادتها)). إن سير الآباء ومجالستهم في السبلة العمانية وفي سفرهم ونشاطهم اليومي ومختلف أوجه تعاملاتهم والاستفادة من خبراتهم على مدى القرون الماضية, هو ما أدى إلى هذا التنوع الثقافي والخبرات المتعددة الجوانب وإلى الرزانة والتمسك بالقيم. وهي سمات بتنا نفتقدها وملامح ثقافة تتراجع بشكل كبير عند الأجيال الصاعدة للأسف الشديد. يورد الكتور هلال الحجري في كتابه (( عمان في عيون الرحالة البريطانيين )) مثالا رائعا للشخصية العمانية تربية وتمسكا بالقيم والمبادئ والعادات , جاء ذلك في المشهد الذي نقله برترام توماس : (( نظرت إلى الوراء فإذا بفتى صغير يسرع الخطى ليلحق بنا ، فانتظرناه حتى دنا منّا ، فوجدناه يلبس قميصاً أبيض وعمامة بيضاء وخنجراً. وكان طوله لايكاد يزيد على أربعة أقدام ، وربّما بلغ من العمر أحد عشر عاماً. وبعد أن سأل بعضناً بعضاً عن العلوم والأخبار، كما هي العادة عند العمانيين، وقف أمام جمالنا وهو يلوح بإحدى ذراعيه قائلاً: لا يمكنكم أن تتابعوا السّير. فقلت في خلدي: اللعنة! أكان لنا أن نقف بسبب هذا الفتى؟ إلا أنه أصّر على موقفه وكرر كلامه وهو يشير إلى كثبان على بعد خمسة أمتار أو ستّة: لا يمكن لكم أن تتابعوا يجب أن تأتوا خيمتي، فأنا سأذبح جملاً لوجبة غداء إكراماً لكم ، وأوفر لكم اللحم والسّمن . فرددنا قائلين إنّ علينا أن نقطع مسافة طويلة قبل غروب الشمس إلا أنه ظل مصراً على موقفه، ولم يتراجع عنه إلا بعـد أن قال : هذا لا يجوز ولكن ألا من شيء أقوم به لكم ؟)). نتاج هذه الشخصية وآثارها وأعمالها ومنجزاتها ونمط تعاملها مع الحياة وظروف معيشتها وشهادات الآخرين حولها ... هو ما سوف نتطرق إليه في العناوين القادمة من هذا المقال.