محمود عدلي الشريف:
إخواني الكرام .. اسمحوا لي أن أصحبكم هذه اللحظات مع بعض التأملات التي قد تفيدنا ليس في الدنيا فقط وإنما يوم القيامة وأبدا معكم هذا التأمل بسؤال: ألا وهو: هل ولدنا من بطون أمهاتنا وكان معنا أموال؟ وهل نخرج من الدنيا على غير الحالة التي ولدنا بها، بمعني هل نصحب أموالا معنا؟ والإجابة لا تقف عند كلمة (لا) بل (كلا) إذن يدور محور الحديث بنا فيما بينهما، خرجنا من بطون أمهاتنا وقت ولدنا لا نملك درهمًا ولا دينارًا ، بل لا نعلم من نحن ولا نعلم أين نحن، ثم منَّ الله علينا بنعمة الإدراك فعلمنا من نحن وممن نحن وأين نحن، وتعلم كل منا ما شاء الله له أن يتعلم، وعلى وجه الخصوص، منا من ولد وكانت تنتظره أموال كثيرة يتمرغ فيها كما يتمرغ سمك الدلفين في الماء، ومنا من كان الحال ميسورًا ولكنه لا يصل إلى درجة الغنى، ومنا من ولد فقيرًا، لا يملك من الدنيا إلا القليل، وهي حكمة الله في خلقه.

ومن أجمل التفاسير التي أعجبتني لهذه الآية تفسير القشيري في لطائف الإشارات حيث يقول:(أرزاق المخلوقات مختلفة فمن مضيّق عليه رزقه، ومن موسّع عليه رزقه، ومن أرزاق هي أرزاق النفوس، وأرزاق للقلوب وأرزاق للأرواح، وأرزاق للأسرار فأرزاق النفوس لقوم بتوفيق الطاعات، ولآخرين بخذلان المعاصي. وأرزاق القلوب لقوم حضور القلب باستدامة الفكر، ولآخرين باستيلاء الغفلة ودوام القسوة. وأرزاق الأرواح لقوم صفاء المحبة، ولآخرين اشتغال أرواحهم بالعلاقة بينهم وبين أشكالهم، فيكون بلاؤهم في محبتهم لأمثالهم. وأرزاق الأسرار لا تكون إلا بمشاهدة الحقّ، فأمّا من لم يكن من هذه الجملة فليس من أصحاب الأسرار) (لطائف الإشارات .. تفسير القشيري 2/ 308)، بل ومن أجمل من فسرت به ما قاله الفخر الرازي في تفسيره حيث يقول:(واعلم أن هذا التفاوت غير مختص بالمال بل هو حاصل في الذكاء والبلادة والحسن والقبح والعقل والحمق والصحة والقسم والاسم الحسن والاسم القبيح، وهذا بحر لا ساحل له وقد كنت مصاحبا لبعض الملوك في بعض الأسفار، وكان ذلك الملك كثير المال والجاه، وكانت الجنائب الكثيرة تقاد بين يديه، وما كان يمكنه ركوب واحد منها، وربما حضرت الأطعمة الشهية/ والفواكه العطرة عنده، وما كان يمكنه تناول شيء منها، وكان الواحد منا صحيح المزاج قوي البنية كامل القوة، وما كان يجد ملء بطنه طعاما، فذلك الملك وإن كان يفضل على هذا الفقير في المال، إلا أن هذا الفقير كان يفضل على ذلك الملك في الصحة والقوة، وهذا باب واسع إذا اعتبره الإنسان عظم تعجبه منه. وحاصل القول فيه أن المقصود منه بيان أن الرازق هو الله تعالى، وأن المالك لا يرزق العبد بل الرازق للعبد والمولى هو الله تعالى، وتحقيق القول أنه ربما كان العبد أكمل عقلا وأقوى جسما وأكثر وقوفا على المصالح والمفاسد من المولى، وذلك يدل على أن ذلة ذلك العبد وعزة ذلك المولى من الله تعالى) (تفسير مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير للرازي 20/ 243).

إذن فالحقيقة أن كل نعمة هي من الله تعالى وحده، وإذا كان ذلك كذلك وهو كذلك، فإننا مستخلفون فيما أودعنا الله من نعمة فهو سبحانه الواهب الذي منًّ بالنعمة، وهو القادر سبحانه على السلب كما تفضل بالعطاء، وكل نعمة عليها صدقة فنعمة العلم صدقتها تعليم من أراد العلم، وصدقة القوة والعافية مساعدة الضعفاء، والأخذ بأيديهم إلى بر الأمان، وصدقة العقل تفكر والتأمل في ملكوت الله ليزداد العبد إيمانها بمولاه ويقينا به، وإذا قصر الإنسان في شيء من هذا فالحل عند حبيبنا محمد (صلى الله عليه وسلم) فيما روى صاحب كتاب:(الجامع الصحيح للسنن والمسانيد 6/ 287): وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم):(خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وَثَلَاثِ مِائَةِ مَفْصِلٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْ كُلِّ مَفْصِلٍ مِنْهُ بِصَدَقَةٍ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمِنْ أَيْنَ لَنَا صَدَقَةٌ نَتَصَدَّقُ بِهَا؟، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): إِنَّ أَبُوَابَ الْخَيْرِ لَكَثِيرَةٌ ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ، وَلَهُ بِكُلِّ صَلَاةٍ صَدَقَةٌ، وَصِيَامٍ صَدَقَةٌ، وَحَجٍّ صَدَقَةٌ، وَتَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ، وَسَلَامُكَ عَلَى عِبَادِ اللهِ صَدَقَةٌ، وَتَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَلَاةِ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ ، وَنَهْيُكَ عَن الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الْأَذَى، وَالْحَجَرَ وَالشَّوْكَ وَالْعَظْمَ، عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَالنُّخَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ تَدْفِنُهَا، وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَالشَّرْبَةُ مِنَ الْمَاءِ يَسْقِيهَا صَدَقَةٌ، وَتُسْمِعُ الْأَصَمَّ وَالْأَبْكَمَ حَتَّى يَفْقَهَ صَدَقَةٌ، وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ الْبَصَرِ صَدَقَةٌ، وفي رواية:(وَتَهْدِي الْأَعْمَى)، وَدَلُّ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ، وَتَدُلُّ الْمُسْتَدِلَّ عَلَى حَاجَةٍ لَهُ قَدْ عَلِمْتَ مَكَانَهَا، وَتَسْعَى بِشِدَّةِ سَاقَيْكَ إِلَى اللهِفَانِ الْمُسْتَغِيثِ، وَتَرْفَعُ بِشِدَّةِ ذِرَاعَيْكَ مَعَ الضَّعِيفِ، فَهَذَا كُلُّهُ صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ، وَلَكَ فِي جِمَاعِكَ زَوْجَتَكَ صَدَقَةٌ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَقْضِي الرَّجُلُ شَهْوَتَهُ وَتَكُونُ لَهُ صَدَقَةٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): نَعَمْ! أَرَأَيْتَ لَوْ جَعَلَ تِلْكَ الشَّهْوَةَ فِيمَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ، أَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّهُ إِذَا جَعَلَهَا فِيمَا أَحَلَّ اللهُ عز وجل كَانَ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ)، وفي رواية:(رَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ وَلَدٌ فَأَدْرَكَ وَرَجَوْتَ خَيْرَهُ، فَمَاتَ، أَكُنْتَ تَحْتَسِبُ بِهِ؟، فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَنْتَ خَلَقْتَهُ؟ فَقُلْتُ: بَلْ اللهُ خَلَقَهُ، قَالَ: فَأَنْتَ هَدَيْتَهُ؟ فَقُلْتُ: بَلْ اللهُ هَدَاهُ، قَالَ: فَأَنْتَ تَرْزُقُهُ؟ فَقُلْتُ: بَلْ اللهُ كَانَ يَرْزُقُهُ؟ قَالَ: كَذَلِكَ فَضَعْهُ فِي حَلَالِهِ، وَجَنِّبْهُ حَرَامَهُ، فَإِنْ شَاءَ اللهُ أَحْيَاهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمَاتَهُ، وَلَكَ أَجْرٌ، قَالَ: فَمَنْ كَبَّرَ اللهَ، وَحَمِدَ، وَهَلَّلَ، وَسَبَّحَ، وَاسْتَغْفَرَ، وَعَزَلَ حَجَرًا، أَوْ شَوْكَةً، أَوْ عَظْمًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، وَأَمَرَ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ عَدَدَ تِلْكَ السِّتِّينَ وَالثَّلَاثِ مِائَةِ السُّلَامَى، فَإِنَّهُ يُمْسِي يَوْمَئِذٍ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنْ النَّارِ، وَيُجْزِئُ أَحَدَكُمْ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنْ الضُّحَى).

وهنا أهمس في إذن كل من منًّ الله عليه بشيء، وأدعو وأرجو كل ذي نعمة أن ينفق منها حتي يبارك الله له فيها وخاصة المال فهو أشد ما يحتاجه الفقراء والمساكين واعلموا أنًّ (اللَّهُ غَنِيٌّ عن صدقة العباد، ولو شاء لأغنى جميع الخلق ولكنّه أعطى الأغنياء لينظر كيف شكرهم وأخلى الفقراء لينظر كيف صبرهم، وذلك قوله عزّ وجلّ: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ بالفرض والصدقة والمعروف، حَلِيمٌ إذ لم يعجّل على من يمنّ ويؤذي بصدقته، وعن عبد الرحمن السليماني مولى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم):(إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتّى يفرغ منها ثم ردّوا عليه بوقار ولين أو بذل يسير أو بردّ جميل فإنّه قد يأتيكم من ليس بأنس ولا جان ينظرون كيف صنيعتكم فيما خوّلكم الله عزّ وجلّ)، وعن بشر بن الحرث قال:(رأيت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام في المنام فقلت: يا أمير المؤمنين تقول شيئا لعلّ الله عزّوجلّ ينفعني به، فقال: ما أحسن عطف الأغنياء على الفقراء رغبة في ثواب الله، وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء ثقة بالله عزّ وجلّ، فقلت: يا أمير المؤمنين زدني، فولّى وهو يقول: قد كنت ميّتا فصرت حيًّا .. وعن قليل تصير ميتًا .. فاضرب بدار الفناء بيتًا .. وابن بدار البقاء بيتًا) (تفسير الكشف والبيان عن تفسير القرآن للثعلبي 2/ 260).

من هنا أحذر نفسي وإياكم من الغفلة وإلهاء الأمل والغرور بالدنيا حتى يضيع العمر وما أودعنا في صندوق أعمالنا شيئا يثقل موازيننا يوم نلقى الله ، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتصدقين المنفقين، وألا يجعلنا من الغافلين.



*[email protected]