د.جمال عبد العزيز أحمد:
.. ثم تجيء آية الختام، لتدفع عن الرسول الكريم ما كان قد شَمَتَ فيه بعضُهم عندما مات ولده القاسم (عليه السلام)، وقالوا: صار محمد أبترَ، أيْ: مقطوع البركة والنسل، وأحزنوا الرسول الكريم بقولهم هذا، وهو من قلة مروءتهم، وانعدام أخلاق الكبار عندهم، حيث لا يُشمَت في موت أحد، ولا يُفرَحُ به.

ولعله من الخير هنا أن نسوق ـ في إيجاز واختصار ـ مناسبة الآية، فقد ورد أن بعضهم قد سَخِر من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين مات ابنه القاسم، وأعلن هؤلاء سعادتهم لمصابه (صلى الله عليه وسلم)، طمعًا في أنه لن يكون له ذِكْرٌ بعد انقضاء حياته، بل أُطلق على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لفظ (الأبتر) أيْ: المقطوع نسله، الذي ليس له عقب، فأنزل الله عز وجل تسلية لرسوله الكريم (صلى الله عليه وسلم) قوله تعالى:(إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ) (الكوثر ـ 3)، وتعددتِ الروايات في القائل ما بين: وائل بن العاص، وكعب بن الأشرف، وأبي جهل .. وغيرهم، وفي الأخير هي قيلت في سيد البشر، حيث ورد أن كلاًّ من: ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة قد رووا أنها نزلت في العاص بن وائل، إذ ذكر رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وهو يقول: دعوه، فإنه رجل أبتر، لا عقب له، فإذا هلك انقطع ذِكْرُهُ. فأنزل الله تعالى هذه السورة، أي سورة الكوثر، وقال شمر بن عطية: نزلت في عقبة بن أبي معيط، وقال ابن عباس وعكرمة: نزلت في كعب بن الأشرف، وجماعة من كفار قريش، وقال آخرون نزلت في أبي جهل.

والجملة هنا مؤكدة بثلاثة مؤكدات (إن شانئك هو الأبتر) هي:(إن)، وضمير الفصل (هو)، وأنها جملة اسمية، تخللتها جملة اسمية أخرى، إمعانًا في التوكيد، وتعميقًا في الدلالة، والمراد القرآني، والشانئ اسم فاعل من الفعل (شَنِئَ)، أي: أبغض، واسم الفاعل يحمل النية مع الفعل، فهو مُصِرٌّ على هذا القول، وهو مبغض للرسول الكريم، ومعلوم عن العرب أنهم أهل مروءات، وأنهم في مثل تلك الظروف يسكتون، أو يعزُّون، ولا يشمتون، فقد نزل هؤلاء الشانئين عن مرتبة المروءات المعهودة، والأخلاق الإنسانية المشهودة، فنقصتْ درجتهم الإنسانية، وتسفلت سلوكياتهم البشرية حتى عند أنفسهم، والكاف في:(شانئك) فيها لون من التخفيف، والمواساة للرسول الكريم، ومجيء ضمير الفصل(هو)، أو المبتدأ الثاني ـ في بعض توجيهات الآية الإعرابية ـ يدل على أن الشانئ في الحقيقة والواقع هو الأبتر، المقطوع الذِّكْرِ، والعقب، والنسل، والتعبير بالأبتر الذي هو أفعل تفضيل (من باتر) يأتي كناية عن محبة الله للرسول، ومحبة الدفاع عنه ضد شانئيه، ومبغضيه من المشركين الحاقدين.

وقد ترابطت الآيات برباط متين، حيث إن الآية هي جملة اسمية مؤكدة بـ(إنَّ)، وهي تحتاج إلى اسم وخبر، وقد عملت فيهما، ثم بعدها جملة اسمية قد ترابَطَ وتَشَادَّ فيها ركناها الأساسيان: المبتدأ والخبر الذي هو جملة اسمية (هو الأبتر) هو خبر لإنَّ يكمل الدلالة، ويوضح المراد، وكون الضمير مبتدأ، أو ضمير فصل، لا محل له من الإعراب، والخبر عندئذ مفرد ـ لا يقلل من أثر المعنى، وقوة المضمون، وعمق الدلالة، وخطورة ما وراءه من حكم يدوم، ويدوم، ولا ينمحي مع الزمن، حيث إن الجملة الاسمية في أصل وضعها وُضِعَتْ، لتدل على ثبوت المعنى، واستمراره، وأزليته، وسرمديته، فالحكم ثابت، ومستمر في كل مَنْ يتفوه بذلك، أو يعتقده، أو يلوكه لسانُه، أو يجري به في أي حقبة زمنية بيانُه، والسورة كلها كأنها جملة واحدة، بدأتْ بامتنان الله على رسوله بإعطائه نهر الكوثر أو حوض الكوثر، وطلبت إليه شكر ذلك، والعمل على توكيد الشكر بتقديم الذبح لله، والصلاة لربه، وجاءت بسبب نزول كلِّ تلك النعم المتتابعة، والخير العميم المتواصل؛ لتكيد أعداء الإسلام، وتضربهم في مقتل، بأن الرسول ممتد العقب، محمود على طول الزمن، مكرم على كل لسان، ومحمَّد في الأرض والسماء، وأن الشانئ له هو الأبتر، المقطوع النسل، والبائر العقب مدى الحياة.

وقد تخلل السورة على قِصَرِها جملةٌ من الأساليب، منها أسلوب التوكيد الذي تكرر، كما دخلها ضمير الفصل، وهو لون من ألوان توكيد الجمل الاسمية، ومنها أسلوب التعظيم المتمثل في استعمال (نا) المفيدة للعظمة، ومنها أسلوب الأمر الذي تكرر، وأسلوب العطف، وأسلوب الربط المتمثل في فاء الجزاء، وأسلوب الحذف المتمثل في حذف مفعول (انحر)، ودخلته الأفعال المتعدية لمفعول واحد، ولمفعولين اثنين، كما دخلها الأسلوبُ الخبري، والأسلوبُ الإنشائي، وقد تخللتْها حروفُ المعاني الرابطة المُمَتِّنة للتراكيب، مثل: إن المؤكدة، والفاء الرابطة، ولام الجر، والواو العاطفة، فجاءت متناغمة في ترابطها، متداخلة في دلالاتها، بيَّنت المكانة، وطلبت الشكر عليها، وعللت لهذا الفضل، وأبرزت أخلاقيات بعض الناس وقت الموت، ودافعتْ عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فكانت كل كلمة منها كوثرًا زخَّارًا بالدلالة، موَّارًا بالحركة، شلالًا بالمعنى، مِرْباطًا لما قبله، وما بعده، وهكذا لغة القرآن الكريم تتسم بأنها لغة مترابطة: سياقيًا، ودلاليًا، وفيها كل ألوان السبك والحبك، والترابط اللفظي، والمعنوي، وكلُّ آية تشد إلى أختها: سابقةً، ولاحقةً في سلك مرتب، منظوم، وعقد منضود، منغوم، وقد وضح ذلك في تحليل كلِّ كلمة، وأسلوب، وتركيب فيها.

فاللهم، تقبل منا، وارزقنا السقيا من حوض، ونهر الكوثر، من يد سيد البشر، الذي نفتديه بِحُرِّ أفئدتنا، وكلِّ أولادنا، وآبائنا، وأمهاتنا، وأرواحنا، ودمائنا، اللهم، شرِّفنا بصحبته في الآخرة، واسقنا من يدها العاطرة، وتقبلْ منا حبَّه، والعمل على نشر سيرته العطرة، والذود عنه، وعن حياض سيرته المطهرة، وارزقنا فهم لغة كتابك، والوقوف عند آيها، وكَلِمِهَا، وحروفها، وكل عطائها يارب العالمين، وصلى الله وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

* كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية

[email protected]