محمود عدلي الشريف:
لقد منَّ الله تعالى على عباده بالنعم والعطاءات، قد تتفاوت فيما بينهم، ولكنها في الحقيقة متساوية عند الله تعالى، فالفقير إن كان فقره ظاهريًا في المال، فإن الله تعالى قد أغناه في أمور أخرى ظاهرة وباطنة، وعلى العموم فكل نعمة من الله تعالى بداخلها نعم شتى، فليست نعم الله تعالى تحصى ولا تعد، ولا يحصيها عدد، وفي الأخير فإن المتدبر لهذا التفاوت يجد أنه من حِكم الله تعالى التي لا يعلم خفاها إلا هو.

فالخلق متفاوتون في كل شيء بين العلم والأمية، وبين الحلم والظلم، وبين الخير والشر، وبين الفضل والمطل، وبين العطاء والمنع، وبين الهدى والضلال، وبين الغنى والفقر، وبين الأحجام والأجسام، وبين الرضا والسخط، حتى الطبائع متفاوتة، حتى أنهم معادن كما جاء على لسان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيما روي (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ: أَتْقَاهُمْ" فَقَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: "فَيُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ، ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ" قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: "فَعَنْ مَعَادِنِ العَرَبِ تَسْأَلُونِ؟ خِيَارُهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلاَمِ، إِذَا فَقُهُوا) (صحيح البخاري 4/ 140، برقم 3353)، قال العلماء:(أصل الكرم كثرة الخير وقد جمع يوسف (عليه السلام) مكارم الأخلاق مع شرف النبوة مع شرف النسب وكونه نبيًا ابن ثلاثة أنبياء متناسلين أحدهم خليل الله (عليه السلام) وانضم إليه شرف علم الرؤيا وتمكنه فيه وسياسة الدنيا وملكها بالسيرة الجميلة وحياطته للرعية وعموم نفعه إياهم وشفقته عليهم وإنقاذه إياهم من تلك السنين، (معادن العرب) أي: أصولها، (خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) معناه: أن أصحاب المروءات ومكارم الأخلاق في الجاهلية إذا أسلموا وفقهوا فهم خيار الناس) (صحيح مسلم 4/ 1846).

فالحكمة في هذا عظيمة ومن يتدبرها يجد أنها ملاحظة وجلية بين الناس، إنها الحكمة التي تجعلك توقن بأن الله تعالى هو المدبر لهذا الكون وهو الأعلم بشئون خلقه، والأقدر على ما يعطيهم ما يصلحهم به، وهو سبحانه المنعم ولا سواه، ومن فضله سبحانه أن أنعم على خلقه جميعا مؤمنهم وكافرهم، طائعهم وعاصيهم، كبيرهم وصغيرهم، ذكورهم وأنثاهم، جنهم وإنسهم، بل إنه سبحانه وتعالى يمكن أن يعطي الكافر أكثر من المؤمن حتى يأخذ حظه في دنياه، أما المؤمن فقد ادخر الله تعالى نعميه يوم القيامة، من هنا نعلم أن الله تعالى إذا أنعم على المؤمن فإنما هذا من رضاه سبحانه وابتلائه للعبد، ليبلوكم أيكم أحسن عملًا، ولهذا يجب الشكر الدائم والمتصل والمتجدد اللامتناهي لله سبحانه، حتى يزيد من هذه النعم، ويبارك فيها، ومع ذلك تجد بعض الناس يسرف في استخدام تلك النعم، مع أن الله تعالى قد نهي عن ذلك.

وهؤلاء الناس الذين ينعمون بنعم الله تعالى ثم لا يوفونها شكرها، ولا يتقون الله فيها فهم مسئولون عنها، ترى البعض قد أنعم الله تعالى عليه بنعمة الصحة، وينسى شكر الله عليه حتى أنه ليتكاسل عن أداء ما فرضه الله عليه من الصلاة، أليس هؤلاء مسئولون عن هذا، ولا يحفظ الله في نعمته، وينسى أن الله تعالى هو المنعم عليه وهو القادر على أن يسترد نعمته ويسلبها ـ نعوذ بالله من السلب بعد العطاء ـ فأقول لهم اسمعوا قول الحبيب محمد ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ فـ(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَحْيُوا مِنَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ. قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الاِسْتِحْيَاءَ مِنَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ) (سنن الترمذي ت: بشار 4/ 218)، و(صَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب: 1724).

فاستغلوا هذه العافية في طاعة الله فهي نعمة يتمناها أصحاب الأسرة في المستشفيات، كم من صحيح نام عن صلاته وغفل عنها، كم من سقيم بات يبكي من وجعه وهو يتمنى أن يكون صحيحًا لكي يذهب إلى بيت الله ليؤدي فرض الله، فهي فرض الله وصلته بينه وبين عباده، وصدق أمير الشعراء أحمد شوقي عندما وصفها بقوله:(ولو لم تكن رأس العبادات، لعدت من صالحة العادات رياضة أبدان، وطهارة أردان، وتهذيب وجدان، وشتى فضائل يشب عليها الجواري والولدان، أصحابها هم الصابرون، والمثابرون، وعلى الواجب هم القادرون، عودتهم البكور، وهو مفتاح باب الرزق، وخير ما يعالج به العبد مناجاة الرازق، وأفضل ما يرود به المخلوق التوجه إلى الخالق؛ ولهم إليها بعد البكور رواح، فإذا هي تصرفهم عن دواعي الليل ومغرياته، وتعصمهم فيه من عوادي الفراغ ومغوياته، والليل خلوات وشهوات، وبيت الغوايات، وتجزئة الوقت مع الصلاة ملحوضة، وقيمته عند الذين يقيمونها محفوظة، عودتهم أن يذكروه ، ويقدروه، وأن يسوسوه في أعمالهم ويدبروه، والوقت ميزان المصالح، وملاك الأمور، ودولاب الأعمال) (أسواق الذهب لأحمد شوقي، ص: 82).

فحذاري من الغفلة والتكاسل عن الطاعة، فالذي صحح بدنك قادر على أن يسقمك، والذي أسقمك قادر على أن يشفيك.

وكن ـ أخي الكريم ـ على حذر من نوبات الدهر فأنت اليوم شاب غدًا ستكون شيخًا كبيرًا، أنت اليوم بصحة وعافية وغذا لا تعرف ما الذي خبأه لك القدر ـ نسأل الله السلامة ـ فاحفظ نعمة الله كما حفظها لك، (حفظِ اللَّهِ للعبدِ: أن يحفظَهُ في صحةِ بدنِهِ وقوتِهِ وعقلِهِ ومالِهِ، كان أبو الطيبِ الطبريُّ قد جاوزَ المائةَ سنة وهو ممتعٌ بعقلِهِ وقوتِهِ، فوثبَ يومًا من سفينة كان فيها إلى الأرضِ وثبةً شديدةً، فعوتبَ على ذلكَ، فقال: ذه جوارحٌ حفظنَاها في الصغرِ، فحفظَها اللَّهُ علينا في الكِبَرِ، وعكسُ هذا أن الجنيدَ رأى شيخًا يسألُ الناسَ فقالَ: إنَّ هذا ضيع اللَّهَ في صغرِهِ، فضيعه اللَّهُ في كبره، وقد يحفظُ اللَّهُ العبدَ بصلاحِهِ في ولدِهِ وولدِ ولدهِ، كما قيلَ في قولهِ تعالى: (وَكَانَ أَبوهُمَا صَالِحًا) إنَّهما حفظا بصلاح أبيهما، وقال محمدُ بنُ المنكدرِ: إنَّ اللَّهَ ليحفظ بالرجلِ الصالح ولدَه وولدَ ولدِهِ، وقريتَهُ التي هو فيها، والدويراتِ التي حولها فما يزالونَ في حفظِ اللَّهِ وستره، وقال ابنُ المسيبِ لابنِهِ: يا بني، إني لأزيدُ في صلاتِي من أجلِكَ، رجاءَ أن أحفظَ فيكَ، وتلا هذه الآية:(وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) .. (تفسير ابن رجب الحنبلي 1/ 575)، نسأل الله أن يصلح أن يحفظ علينا ما أودعنا من نعم .. وللحديث بقية.



*[email protected]