د.جمال عبد العزيز أحمد:
تهلُّ علينا ذكرى إسلامية عزيزة، قلبتِ الموازين، وعدَّلتِ المسار، وغيَّرتْ وجه الأرض، وقوَّمَتِ اعوجاجًا كان حاصلًا في دنيا العرب، وهي ذكرى الإسراء والمعراج، تلك الذكرى العزيزة على قلوبنا جميعًا، حيث التقت السماء بالأرض، وأسرى الله عزوجل بحبيبه، ومصطفاه في رحلتين عظيمتين، تسريةً عنه، وتخفيفًا لأحزانه، ومحنته، ومعاناته بعدما حدث معه ما حدث في الطائف، وكانت كذلك في الوقت نفسه فرضًا لشعيرة الصلاة التي شُرِعتْ في السماء السابعة، وسُنَّتْ في الملأ الأعلى لجلالها، وعظمتها، وسمو أهدافها، وكانت الرحلة الأرضية قد بدأت من مكة (حيث المسجد الحرام) أي: من مسجد ومكان عبادة وطُهر إلى القدس الشريف (حيث المسجد الأقصى) إلى مسجد وعبادة وطُهر كذلك، فرحلة كلها طهر وعبادة، وأماكنها هي مصانع التوحيد الحقيقية، وكانت الرحلة السماوية قد بدأت من المسجد الأقصى إلى سدرة المنتهى، وهي آخر ما ينتهي إليه كلُّ شيء من علم الخلائق، ويقف عنده كل ما يتعلق بالبشر والناس أجمعين، وبعدها الجلال والكمال كله، حيث تلقِّي فريضة الصلاة العظيمة في هذا المكان المقدس، والصلاة عمود الإيمان الركين، وأساس الإسلام المتين، وسبب الاتصال بالله العلي العظيم، وهي معراج المسلم إلى ربه، وكان كذلك من أهم أهداف تلك الرحلة هو التسرية عن رسول الله، وإراءته ما سيحدث لأمته مستقبلا، ويرى الحياة كلها، وتفسَّر له بصورة واضحة، ومرئية، وعملية، من سيدنا جبريل (عليه السلام) الذي رافق الرسول في رحلته، وفسر له كل مرئية من مرئيات الإسراء، وأفهمه إياها، ووقفه على مقاصدها، ومراميها وكمال مبانيها وجلال معانيها، تلك التي تحتاج إلى تحليل مستمر، ولندر حول القول الكريم الذي ورد في حادث الإسراء وأرخ له وأثبته.

يقول الله تعالى:(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الاسراء ـ 1).

وإذا أخذنا كلمات وجمل السورة نحللها، ونقف أمامها نتمَلَّى بلاغتها، وما تعطيه من تربويات، وقيم، نجد أن أول كلمة فيها تستدعي التنزيه والتعظيم والتقديس لكل أفعال وأقدار الله لأن الموقف موقف لا يقدر عليه إلا مالكُ الكون، وصاحبُ الأمر والنهي فيه، ومَنْ له المشيئة العظمى في كل مناحي الوجود، وله الكلمة الأولى والأخيرة في كل جوانب الحياة، فهو ـ جل جلاله ـ الذي أسرى بعبده في رحلة لا يمكن أن يقوم بها أيُّ مخلوق مهما كانت قدراته، وإمكاناته لأنها رحلة أرضية سماوية استغرقت وقتًا يسيرًا، ولو تخيلنا ـ نحن البشر ـ كم من الوقت، وكم من آلاف، ومئات السنين، والشهور، والأيام تأخذ، وتستغرق ـ لذهلنا حقًّا، ولانفجر منا العقل جراء التفكير، ولكنَّ الله بطلاقة قدرته أنهاها لحبيبه في وقت وجيز، حيث قام من نومه، وعاد من رحلتيه، ومكان نومه ـ كما تذكر السيرة ـ لم يبرد، بل كان لا يزال ساخنًا، رغم أنها كانت رحلة طويلة: أرضيًّا، وسماويًّا، ورأى فيها مرائيَ عديدةً، ووقف، وسأل عنها، وتفهَّم طبيعتها، وكنهها، ومراميها، وأخذ منها رؤية متكاملة عن طبيعة الحياة، وما فيها من ابتلاءات، وأعمال لا بد أن تُفهَم لتنهض النفس المسلمة بها، وتجدِّد ذاتها على وفاقها، ومعطياتِها، لكن قدرة الله فوق كل قدرة، وفوق كل تصور، ومن ثم جاءت لفظ (سبحان) تلك التي هي عَلَمٌ على تنزيه الله تنزيها كاملًا، تامًا، جامعًا، مانعًا، شاملًا، كاملًا، وكلمة:(الذي) اسم موصول خاص، وهو كناية عن رب العزة والجلال، أيْ: سبحان الله الذي، أو الإله أو المولى الذي، ففيه إيجاز كذلك بالحذف للعلم به، وجملة:(أسرى بعبده)، تبين أن الرحلة كلها إلهية، ليس فيها دخل لبشر، ولا للرسول الكريم، فالذي أسرى هو الله، والمسرَى به هو رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) والإسراء هو السير ليلًا، من (السُّرَى) وقول العرب:(عند الصباح يحمد القومُ السُّرِى)، وفعلها رباعي، أو ثلاثي مزيد بالهمزة (أسرى) تلك الهمزة التي تفيد القدرة، والتمكن، فالفعل:(سرى) الثلاثي يبين أنه يسري وحده، ولكن الفعل الرباعي:(أسرى) أيْ: أمكنه الله بقدرته من الإسراء في أماكن، وأزمنة يستحيل على البشر القيامُ بها، وشبه الجملة:(بعبده) الباء فيه تفيد المعية والمصاحبة، أي: مع عبده، وهذا تشريف كبير للرسول الكريم، وكلمة (بعبده) تفيد أنه أسري به روحًا وجسدًا، لا روحًا فقط ـ كما يرى بعضهم ـ وهو رأيٌ غير صحيح، فلم يقل الله تعالى:(أسرى بروح عبده)، أو (أسرى بجسد عبده فقط)، وإنما كلمة (عبد) تدل على أنه كان بجسده وروحه معًا، واختيار مقام (العبودية) هنا ليدل على أنه أشرف مقام، وأرفع منزلة، فتشريف الإنسان أن يكون عبدًا حقيقيًا لربه، خاشعًا خاضعًا باكيًا، مستكينًا لله، وهو أسمى وأشرف وضع، وأرفع مقام، ومن ثم اختاره الله في هذا الحديث الجليل عن الإسراء، ومنه نفيد أن المرء إذا أراد أن يسريَ بنفسه إلى ربه فليتخذ مقام العبودية مطيةً له، وسبيلًا إلى مولاه، عبودية لا كبر فيها، ولا غرور، بل إخبات، وشكر، وخضوع، وبكاء، وقرب، وخشوع محوط بالدموع، فاسم الموصول عائد على الله، وفاعل الفعل (أسرى) عائد على الله، فالله صاحب كل شيء في تلك الرحلة العظيمة الكبرى، وكلمة:(ليلًا) تعني بتنكيرها جزءًا منه، لا كل الليل، حيث نكِّرَت الكلمة، أيْ فعل الله كل تلك الأعاجيب والمعجزات في وقت رمزي يسير، فهو جزء من الليل، مع أن قريشا قالت فقط ـ عن رحلة الإسراء دون المعراج:(إننا نقطعها في شهر ذهابًا، وفي شهر إيابًا، وهي رحلة أرضية من مكة المكرمة حيث البيت الحرام إلى القدس حيث المسجد الأقصى، وأما رحلة المعراج فلا يمكن لأحد تقدير زمانها إلا الله ربُّ العالمين ـ جل جلاله، وتعالت عظمته).

ولفظة (ليلًا) كذلك كناية كذلك عن طلاقة القدرة حيث كان الزمن يسيرًا للغاية، وجاءت كلمة (ليلًا) كذلك لتضفيَ على المشهد الجلال، والمهابة حيث السكون، والنور، وسبحات الفضاء، وصوت الليل يسري، والهدوء، والصفاء، وهذا يبعث على تملِّي المنظر، والعيش وفق معطياته من الهدوء، وجمال العبادة، والصمت، والتأمل، وقوله:(من المسجد ..) (من) هنا لابتداء الغاية المكانية، أيْ: ابتداءً من هذا المحل الطاهر، وأن المكان المبارك هو أول بيت وُضِعَ للناس، وفيه الكعبة المشرفة، المكان الذي نزل فيه أنبياء الله، ورسله، وملائكته، والتعبير بـ(الحرام) وهو المصدر، ليكون أبلغ في حرمته، وآكد في قدسيته، أي المسجد المحرم فيه الظلم، وكل ما لا يحل، والمكان المعظَّم الذي هو بيت الله صاحب الملك والملكوت، هو أطهر بقعة في هذا الكون الرحيب، وكلمة (المسجِد) بكسر الجيم اسم مكان، وردت على ما ينطق العرب، ولكنَّ قياس المكان فيها هو(المسجَد) بفتح الجيم لأن اسم المكان والزمان يصاغان على وزن (مَفْعَل) بفتح العين من كل فعل على وزن فعَل في الماضي (يفعَل) في المضارع (بضم العين أو فتحها)، ولكن القرآن لم يأت بجيم (المسجد) مفتوحةً رغم قياسيتها، وقاعدتها الصرفية؛ لأنه، وإن كان القياسَ لكنه ليس مسموعًا، ولا تنطق به العرب، بل تنطق (المسجِد) بكسر الجيم، وهذا ما يقولون عنه:(إنه شاذ قياسًا فصيح استعمالًا)، والقرآن نزل بلسان عربيٍّ مبين، يتكلم بلغة العرب، التي يتداولونها، وليس على وفاق القاعدة الصرفية، أو النحوية.



* كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية

[email protected]