د.جمال عبد العزيز أحمد:
.. و(أل) في (المسجد) عهدية ذهنية، أي: المسجد المعروف في ذهن كل مسلم ومسلمة، و(إلى) لانتهاء الغاية المكانية، أي: كان الإسراء من ابتداء المسجد الحرام إلى انتهاء المسجد الأقصى، فـ(من، وإلى) قد حدَّدتا بداية ونهاية الرحلة الأرضية، وأنها من مسجد إلى مسجد، وفيها إعلان بوراثة المسجد الأقصى للمسلمين مع المسجد الحرام، فهما من ممتلكات المسلمين في كل وقت، وحين، و(الأقصى) أفعل تفضيل من الفعل:(قصا يقصو) أيْ: ابتعد يبتعد، ورسمت ألف (الأقصى) ألفا مقصورة لأنها رابعة كالأعمى، والأزهى، والأذكى، والأدنى، والأدهى .. ونحوها، وهكذا يجب أن يكون المؤمن متنقلًا من طهر إلى طهر، ومن مكان عبادة إلى مكان عبادة، حتى يحقق مقام العبودية الحقة.

وكلمة:(الذي) صفة للمسجد الأقصى، والصفة مع الموصوف كالشيء الواحد، والفعل:(باركنا) فعل ماض، أيْ: أن البركة حاصلة فيه منذ الأزل، وفاعل الفعل:(بارك) هو:(نا) الدالة على العظمة، والتي تعود على الله تعالى والألف في (بارك) ألف مزيدة تفيد زيادة البركة، وكمالها، ونون العظمة تشريف للبركة، ولمكانها، فالذي قام بالبركة، ووضعها هو: مَنْ يملك كلَّ بركة، وعنده كل فضل، ونعمة، ولم يقل (باركناه) لتكون البركة مقيدة به، وإنما قال:(باركنا حوله)، فالبركة فيه، وهي كذلك تحوطه من كل مكان، وهذه حقيقة واقعة، فهي كناية عن نسبة، فإذا كانت البركة حوله، فهي كذلك حاصلة فيه من باب أولى، كما نقول:(فلان يمشي المجدُ في ركابه)، فهو ماجد من باب أولى، فالناظر إلى المسجد الأقصى يرى البركة في كل شبر فيه، وحوله من حيث: اخضرار الأشجار، ووجود الثمار، والورود، والخيرات كلها بجميع أنواعها، وحوله توجد محالُّ وأعمالٌ يرتزق الناسُ منها، فلم يبارك المسجد وحده، وإنما بارك الله حوله: زروعًا وثمارًا، وخيرًا وأعمالًا، وحرفًا ومصانع، وأشغالًا وأرزاقًا، فهو خلية نحل تعمل ليل نهار، وتفيض بركة على كل أرجاء المسجد، ثم تأتي العلة والسبب الذي من أجله تمَّت تلك الحادثة، وحصل الإسراء:(لنريه من آياتنا) أيْ: فعلنا ذلك كله من أجل أن نبيِّن له شيئًا من آياتِنا في الكون والحياة، والإضافة في (آياتنا) للتشريف، والتعظيم، فهي ليست أيَّ آيات، وإنما هي من آيات الله، مالك الملك والملكوت، وصاحب كلِّ شيء في الأولى والآخرة، والفعل (نُرِيه) بضم النون، ماضيه (أرى) الرباعي، وأصله:(أرأى)، ثم حذفت الهمزة، تخفيفًا لالتقاء الساكنين، أيْ: نُقدِره على الإراءة، ولولا إراءتنا إياه لما رأى، ففرق كبير بين (رأى) الثلاثي، و(أرى) الرباعي، فضم النون:(نُري) مؤذن بالقدرة، مبيِّنٌ طلاقتها، فالرسول وحده لا يمكن أن يرى، وإنما هو يرى بإراءة الله له، فيرى ما لا يمكن رؤيته، وهو وحده، لكن هو هنا برفقة الملك ـ جلَّ جلاله ـ فهو يرى بقدرته، وسيرى بقدرته، وفي رحلة أرضية سماوية بمعية الله ـ جلَّ في علاه ـ والهاء في: (لِنُرِيَهُ) تفيد التخصيص، أيْ: لنريه وحده دون غيره من البشر، و(من) تفيد التبعيض، أيْ لنريه بعضًا من آياتنا؛ لأن آيات الله في كونه لا تنتهي دلالاتها، ولا تنقضي عجائبها، فقد أراه بعضًا من آياته الكبرى التي تمكِّنه من السير على هدًى ونور بعد عودته من تلك الرحلة العظيمة، و(آيات) جمع آية، وقد رأى الرسول من المرائي الكثير والكثير، وحقًّا، فإن كل مرئية تُعَدُّ آيةً، ومعجزةً، وعجيبةً من عجائب الزمان والسماء.

فالمسلم إذا أراد أن يرى المعجزات بين ناظريه فعليه أن يكون مع الله، ومتنقلًا بين مساجده، وأماكن عبادته، وعليه أن يتأكد من أن الله سيُريه الكثير من آياته في كونه الدالة على صدق نبيه، وجلال ربه، وعظمة الله، وقدسيته، فيمضي في دعوته وحياته وهو قويٌّ مستقر.

وليس المقام مقامَ سرد لتلك المرائي، وتحليلها فله مكان آخر، ثم يأتي أخيرًا التذييل الكريم المتناغم مع ما قبله:(إنه هو السميع البصير)، سمْع، وبصَر، وهو يتابع حبيبه ويدافع عنه، ويسرِّي عنه أحزانه في رحلة أرضية علوية أنْسَتْهُ كل حزن، وضيق، ووقفتْه على كل ما سيحدث مستقبلا؛ ليكون على علم ودراية، ويعرف كيف يحل كل مشكلة تَجِدُّ للمجتمع المسلم بعد رحلة الإسراء والمعراج، وقوله:(إنه) الهاء تعود على الله تعالى، والضمير (هو) جاء فصلًا وتأكيدًا على أن ما بعده هو الخبر، فقد ورد التركيب بضمير الفصل الذي يتابع التأكيد، وتعميق الفهم، وملء القلب بالعقيدة الصحيحة التي تقوم على اليقين في فعل الله، وعجيب صنعه، حتى يتيقن المسلم من جلال وكمال وعظمة وقدسية مَنْ يعبُده، والجملة القرآنية هنا قد تحمَّلت أكثر من مؤكد وهو هنا غاية في الضرورة، فمن تلك المؤكدات:(إنَّ)، واستعمال الجملة الاسمة، ووجود ضمير الفصل، وتعريف السميع والبصير، وتلك المؤكدات تثبت، وتهدِّئ من رُوعِ الرسول الكريم، وتسكِّن قلبه، وتطمئن فؤاده، وهكذا نفيد منها تربويًّا أننا في عباداتنا لابد أن نكون غاية في اليقين بمن نعبد، وأنه مطلع علينا، سميع لنا، بصير بنا، يحوطنا برعايته،ويشملنا بعين رعايته، وهو ما يُطمئِن قلبَ العابد، ويجعل فؤاده مستقرًّا هادئًا، ومن ثَمَّ اختيرت هاتان الصفتان هنا دون غيرهما من صفات الله، فلم يقل مثلًا:(إنه هو العزيز الحكيم)، ولا (إنه هو القوي المتين)، ولا:(إنه هو الوكيل الكريم) لأن الموقف يتطلب سميعًا لكل ما يقال، ويدور، بصيرًا بعبده لكل ما يعتريه، ويصيبه، وهو معه سَمْعًا وبَصَرًا، كما قال لموسى وهارون، عندما قال الله لهما أن ينصحا فرعون، وأمرهما أن يذهبا إليه؛ ليذكراه بالله، وأنه مخلوق لله، وليس إلها، وعليه أن يرسل معهما بني إسرائيل، كما قال تعالى:(اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)، ثم قال موسى وهارون ـ عليها السلام:(قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى)، فرد الله عليهما مطمئنًا لقلبيْهما، وذاتيْهما:(قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)، فالسمع والبصر مهمَّان في حياة العبد، والداعية، ولابد أن يستشعر أن الله يسمعه، ويراه، ويبصره حتى يهدأ قلبه، ويطمئن فؤاده، وتأتي طاعته هادئة تامة، ويمضي في مسيرته الدعوية بكلِّ هدوء قلب، ويقين فؤاد.

وفي تلك الآية نرى تحمَّلها لعدد من الجمل: الأولى جملة فعلية قام فيها المصدر المنصوب مقام فعله؛ ليدل على ثبوت التنزيه، وأزليته واستمراره، وفيها كذلك أسلوب إيجاز بالحذف في الموصوف، وهو اسم الجلالة المحذوف، وتقديره:(سبحان الله الذي أسرى ..)، وفيها الأسلوب الكنائي الذي لوحظ في استعمال الموصول بدل الاسم الظاهر العادي:(الذي أسرى)، وفيها الجملة الفعلية ذات الفعل الماضي الدال على وقوع الفعل والانتهاء منه، وفيها حروف المعاني الرابطة بين الجمل والكلمات مثل:(من، وإلى والباء، ولام التعليل، وإنَّ المؤكدة)، وفيها الفعل المضارع الذي يفيد الاستمرار، وهو الفعل الرباعي: (نريه)، وفيها الضمائر، أو الكنايات ـ كما يسميها أهل الكوفة من النحويين ـ عن الله، والرسول، والسورة كلها ضمائر تمتِّن الصلة بين الجمل، وتحيل على الأسماء الظاهرة، وتسهم في ترابط نصِّ الآية ترابطًا محكمًا، سبكًا وحبكًا، وفيها أسلوب التعليل:(لنريه) الذي بيَّن حدوث علة الإسراء والمعراج، واستُعمِلت في الآية أسماء المكان، ولفظ الزمان، كما استُعمِلت فيها كذلك الصفات المشبهة التي تفيد استمرار الصفة استمرارًا دائمًا، وأزليًّا:(السميع البصير)، وورد فيها أسلوب الفصل الذي يقوِّي الصلة بين الركنين، المتمثل في ضمير الفصل، وفي الآية الأفعال وردت كلها مزيدة:(أسرى ـ باركنا ـ لنريه)، وكل زيادة أفادت دلالة جديدة في سياقها، كلُّ ذلك تعانق، وترابط، وتساند، وتناغم من أجل إبراز تلك الرحلة الربانية لرسوله الكريم، صلى الله على صاحب الذكرى العطرة، وعلى آله وصحبه أجمعين، وكل عام وأنتم بخير، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات.



* كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية

[email protected]