ناصر بن محمد الزيدي:
إن الله الـكـريـم الـمـنـان، أفـاظ عـلى عـبـاده بجـزيـل نـعـمـه، وحسبهـم مـن الـنـعـم الـكـثـيرة نـعـمة الإيـمـان، إذ وفـقـنا وحـبّـب إلـيـنا الإيـمـان وزيـنـه في قـلـوبـنـا، وكـرّه إلـيـنـا الـكـفـر والـعـصـيان، قال تعالى:(واعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) (الـحـجـرات ـ 7).

فالإنـسـان هـو الــذي جـاهـر الله تعالى بالـعـصـيـان، ولـم يـذكـر مـا هـو فـيـه مـن نـعـم الله، والإنـسـان بـيـن حـالـتـيـن، إمـا شـاكـرًا أو كـفـورًا، فـإن كـان شـاكـرًا ربـط تـلك الـنـعـم بـشـكـر الـمُـنـعِـم، فـتبـقى ويـزيـده الله مـن فـضـلـه، فانـظـروا إلى مـعـامـلـة الله عـز وجـل لـعـبـاده، رغـم مـا يـبـدر مـن عـبـاده مـن الـمـعـاصي، فـهـل انـقـطـعـت نـعـمـة مـن نـعـم الله عـن عـبـاده؟ هـل انـقـطـع فـضـل الله عــنـهـم؟، هـذه الـنـعـم التي تهـمي مـن سـماء الله، بـل هـي مـوصـولـة دائـمًـا، لا مـقـطــوعـة ولا مـمـنـوعـة.

والله قـادر أن يـرزق عـبـاده بـغـير تـعـب ولا مـشـقـة، كـمـا حـصـل ذلك لـمـريـم الـعــذراء، فـمـن الـمـعـلـوم أن زكـريـا نـال شـرف كـفـالـة مـريـم بـفـضـل الله عـلـيـه ولـحـكـمـة أرادهـا الله أن تـكـون سـبـبـا لأمـر آخـر، فـكان سـيـدنا زكـريـا حـريـصـًا أن يـتـولى أمـر مـريـم بـنـفـسـه، في إحـظـار مـا يـلـزمـهـا مـن طـعـام وشـراب .. وغـيره مـن مـقـومـات الـحـيـاة، ولـكـن سـيـدنـا زكـريـا لاحـظ أن لـدى مـريـم طـعـامـًا لـم يـأت بـه هــو، فـسـألـهـا مـنـكـرًا مـا رأى، قال: يـا مـريـم أنّى لـك هــذا؟!، قالـت: هـو مـن عـنـد الله، إن الله يـرزق مـن يـشـاء بـغـير حـسـاب.

وكان سـيـدنا زكـريا أراد ذريـة طـيـبة تـرثـه وتـرث مـمـا تـرك آل يـعـقـوب، ولـكـن سـيـدنـا لـم يـنـسَ أن يــذكـر حـالـتـه ومـا وصـل إلـيـه مـن الـكـبر والـضـعــف، وعـن حـالـة زوجـه الـعـاقـر، قال تعالى:(ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (مـريـم 2 ـ 6).

فـلـمـا رأى سـيـدنـا زكـريـا فـضـل الله عـلى مـريـم ، بـادر إلى الـدعـاء قال تعالى:(هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) (آل عـمـران 38 ـ 39)، فـانـظـر كـيـف ربـط الله قـصـة سـيـدنا زكـريـا بـقـصـة مـريـم الـعـذراء الـبـتـول، إنـهـا إرادة الله وحـكـمـتـه وفـضـلـه وكـرمـه.

فالله قـادر أن يـرزق عـبـاده بـغـير كـدٍّ وتـعــب ومشـقـة، ولـكـن اقـتـضـت حـكمـتـه بخـلـق الأسـبـاب حتى يـسـعـى الـعـبـد ويـأخـذ بالأسـبـاب، لـيـثـيـبه عـلى ذلك، فـجـعـل لـعـبـاده الأرض ذلـولًا، وجـعـلـهـا تـتـفـاعـل لـمـن أخـذ بالأسـبـاب، لا تفـرق بـين مـؤمـن وكـافـر ومـلـحـد ومـنـافـق، فـلـم تـمـتـنـع عـن الـتـفـاعـل لـمـن أخـذ بالأسـبـاب، لآنـهـا مـسخـرة للإنـسان بـغـض الـنـظـر عـن ديـن الإنسان وعـقـيـدة الإنسان، قال تعالى:(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الـملك ـ 15)، وعـمـا قـريـب ينـعـم هـذا الإنسان بـتـلك الـثـمـار الـمـتـنـوعـة شـكـلًا ولـونـًا وطــعـمًـا ورائحـة.

ولـكـن هـل فـكـر هـذا الإنـسان الـمـجـاهـر بالـمـعـاصي في قـدرة الله التي تحـف تلك الـمـزروعـات بالـرعـاية والحـمـايـة، قال تعالى:( أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (الـواقـعـة 63 ـ 67)، وقال تعالى:(ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ..) (الـطلاق 2 ـ 3)، فـبرحـمـة الله يجـعـل رزق عـبـده مـن غــير مـا سـعـى وكـدحـت يـداه وتعــب، فالـعـبـد يـحـرث ويـلـقي الـبـذر ويســقي الأرض ويـنـوع في الـمـزروعـات، ويـأمـل عـنـد الحـصـاد ويحـسب مـدخـولـه مـن هـذا الـنـوع كـذا ومـن الـنـوع كـذا ومـن الـمـزروع كـذا، ولـكـن قـد تـأتي جـائحـة فـتـقـضي عـلى تـلك الـمـزروعـات.

ثـم يـسخـر الله لـه مـن يـقـوم بـمـسـاعـدتـه مـن إخـوانـه الـمـزارعـين، ويصـل إلـيه مـن مسـاعـدة إخـوانـه الـمـزارعــين أكـثر مـمـا كـان يـأمـل ويـقــدر أن يحـصـد مـن مـزرعـتـه، فـرحـمـة مـن الله بـعـبـده حـتى لا يـتـكل عـلى الأسـبـاب ويـنـسى خـالـق الأسـبـاب، ويـقـول لـولا ولـولا مـا حـرثـت وزرعـت مـن أيـن يـأتي رزقـنـا، ذلك فـضـل الله يـؤتـيه مـن يـشـاء وعـلى الـعـبـد أن يـسـعـى، ويـطـلـب الـعـون والـتـوفـيـق مـن الله سـبحـانـه وتعالى.

* كاتب عماني