د.جمال عبد العزيز أحمد:
عزيزي القارئ .. نستكمل معك ما تبقى من حلقات هذا الموضوع .. ونقول: وبالطبع لا أحد يمكنه أن يدريك عنها شيئًا، فيتولى الله الحديث، والبيان عن المستفهم عنه الذي قدَّم لها بـ(ما أدراك) حتى يدريَه، وما في كل القرآن الكريم من الفعل الماضي:(أدراك) فقد أدراه الله إياه، وكل ما فيه من المضارع:(يدريك) فلم يُدْره إياه، وأمسى من المغيَّبات التي لا يعلمها إلا الله وحده، نحو:(يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا) (الأحزاب ـ 63)، ونحو:(اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ * يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) (الشورى 17 ـ 18) .. وهكذا، فجاء الفعل بالماضي، وقد فسره القرآن الكريم عقب ذلك الاستفهام الذي يفيد التفخيم، والتبجيل، والتعظيم، وإبراز مهابة معناها، وخطورة مبناها.

وتأتي الآية السادسة لتجيب عن التساؤل الذي ينتظره القراء، والمستمعون معًا، فتعجل به: (نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ) أيْ: هي نار الله الموقدة، فـ(نار) تعرب على أحد إعرابين، الأول بدلًا من (ما) في قوله:(ما الحطمة) أي: هي نار الله الوقدة، أو تعرب خبرًا لمبتدأ محذوف، تقديره (هي نار الله الموقدة)، ويكون التعبير بالجملة الاسمية التي تفيد ثبوت الحكم، وثباته، واستمراره، أو هي صفة مفردة وردت بالاسم الدال هو الآخر على الثبوت، والاستمرار، والإضافة هنا للتشريف (نارُ اللهِ)، وبيان خطورتها، ومدى قوتها، وأثرها، وقدرتها على التحطيم، والتدمير الشامل، ووُصِفت بأنها هنا (الموقدة)، وهو اسم مفعول، أيْ أوقدها ملائكةٌ أشدَّاء موكَّلون بذلك، فمهمتهم إيقادُها كلما خبتْ، وزيادة نارها، وإشعالها كلما هدأت، كما قال الله تعالى:(وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَ صُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا) (الاسراء ـ 97)، فهي كلما خبتْ أُوقِدَتْ، وأُشْعِلَتْ، فهي خبر لمبتدأ، وهو تركيب إضافي موصوف؛ لاشتداد واستمرار الخيال، وبيان أنَّ إيقادها أمرٌ مُنتَهًى منه، معروف، مقرَّر، لا يتوقف، متتابِع متواصِل، لا يُترَك.

ثم تأتي الجملة القرآنية السابعة:(الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَة)، فـ(التي) صفة للحطمة، أو بدل منها، أو صفة لنار الله، أو للموقَدة، أو هي خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هي التي تطلع على الأفئدة، و(تطلع) فعل مضارع يفيد الاستمرار، فشأنها أنها تنقِّب، وتكشف، وتطلع على القلوب، والأفئدة لتحرقها، وتدمِّرَها، و(تطلع) فيها إبدال، وإدغام يدل على تغلغلها، وتنقيبها، وتفتيشها، وتعمُّقها؛ حيث إن أصله (تطتلع) بوزن (تفتعل) ثم حدث إبدال التاء طاءً تحقيقا للتفخيم، والتماثل فصارت (تطْطَلع)، ثم حدث الإدغام فصارت (تطَّلع) بفتح الطاء مشددة، فكأن الإبدال مع الإدغام قد حقَّقا ذلك التعمُّق، وهذا التداخل، والكشف، والتنقيب، وهذا التغيير وذاك التبديل، كلُّه يسهم في بيان الاطِّلاع، والتدوير، والكشف، ونبش القلب للاطلاع عليه وحرقه، وإذابته، وكلمة:(على) تفيد التحكم، والسيطرة، والاستعلاء، فـ(على) تفيد العلو والتمكن، كما في نحو:(سيطر الطيرانُ على ساحة القتال)، أو كما قال تعالى:(قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ) (النحل ـ 26)، فهو هنا كناية عن تمكُّن السقف منهم، وعدم تفلُّت أحد، وهروبه، ونجاته، وإنما وقع عليهم جميعًا فماتوا عن بَكْرة أبيهم، ولم ينجُ أحد منهم، وهذا ما تدل عليه كلمة (على) في الآية الكريمة في هذه السورة، فهي تفيد التمكن، والاستعلاء، و(الأفئدة) مجاز مرسل علاقته الجزئية، حيث أطلق الجزء:(الفؤاد)، وأراد الكل:(الجسد كله)، و(أل) جنسية، أي: جنس الأفئدة، سواء أكانت لصغير أم لكبير، أم لرجل أم لامرأة، أم لغني أم لفقير، أم لأبيض أم لأحمر، وقد عبر القرآن الكريم بالمضارع الذي يعني دوام اطلاعها، وديمومة تحطيمها، وأنها تتمكن من أهلها قلبًا وقالبًا، كلاًّ وجزءًا، أصلًا وفرعًا، ثم تأتي الجملة القرآنية الثامنة:(إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ)، جملة اسمية مؤكدة، بدأت بحرف التوكيد (إنَّ)، والضمير العائد على الحطمة، فهي كناية عن نار جهنم، وكلمة (عليهم) شبه جملة في محل نصب حال، أو متعلقة باسم المفعول:(مؤصدة)، وتقديم شبه الجملة:(عليهم) يفيد إحاطتها بهم، وأنها سيطرت عليهم، فكأنها قد ضمَّتْهم جميعًا، فلم يشذ منهم أحدٌ، بل كلهم أُوصِدَ عليه، وحميتْ النار من كل جانب عليه، واحترق، وذاب في أتُونها، وسالتْ عظامهم، و(مؤصدة) مشتق، أي: وقع عليها الإيصاد من قِبَل الملائكة، فقد أحكموا إغلاق أبوابها إحكامًا كاملًا، والجملة كلها كناية عن طلاقة القدرة الإلهية، وخطورة النار، وتمكُّنها منهم، ودقة وإحكام قفلها عليهم جميعًا، وهذا الحكم ثابتٌ مستمرٌّ أزليٌّ سرمديٌّ، لا ينفك عنهم، لأن الجملة جاءت اسمية، تفيد ثبوت الحكم لما سيقت له، واستمراره، وعدم انفكاكه عنهم، وملازمته لهم، ثم تأتي الجملة القرآنية التاسعة والأخيرة التي هي ختام السورة الكريمة، لتبين طبيعة المكان الذي هم فيه، وهو مغلقٌ عليهم:(فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ)، فهي شبه جملة متعلق بفعل محذوف تقديره، تظهر، أو تبدو، أو تكون، أو أن شبه الجملة (في عمد ممددة) خبر لمبتدأ محذوف، تقديره (هي في عمد ممددة)، وكلمة (في) خطيرة في موضعها، حيث تبيِّن أنها مؤصدة، وأن العمد متداخلة فيها مثبتة تثبيتا كبيرا حتى إن الرائي لا يراه بسبب انظرافه فيها، و(العَمَد) جمع عمود، فهي أعمدة ضخام حديدية من صنع الآخرة، لا من صنع الدنيا، وطويلة ممتدة، وكلمة (ممددة) تشعرك بطولها، وسُمْكها، وقوتها، حيث لا يمكن لعقل بشري أن يتصورها، أيْ: أنها أغْلِقَتْ أبوابُها عليهم بأعمدة من حديد، ونار ممددة، تشملهم من كلِّ جانب، حيث لا مفر، ولا مهرب، وقيل: مُدِّدَتْ أبوابها، بحيث لا يجدون منها مخرجًا بأي حال من الأحوال، وتنكير ممددة يوحي بخطورتها وقوتها وبأسها، وأنه لا يمكن لأحد أن يتفلت منها، أو يجد طريقا للخروج، فلا يمكن لأيِّ إنسان أن يخرج منها بسبب إيصادها المحكَم، وأعمدتها القوية الممتدة، و(ممددة) مفرد، و(عمد) جمع، فلم يقل:(ممددات) لأن ما لا يُعقَل في اللغة يعامل معاملة المفردة الغائبة، على شاكلة:(كأنهم أعجاز نخل منقعر) ولم يقل: (منقعرات)، ونحو:(كأنهم جراد منتشر)، ولم يقل: منتشرات، وعلى وفاق:(على سرر موضونة) ولم يقل: موضونات، ومن الناحية التربوية نجد السورة قد أعطتنا قيمًا بالغة، وجعلتنا نفر فرارًا من تلك العادات السيئة التي عرضتْها السورة الكريمة، وبيَّنتْ عواقبها الوخيمة، وآثارها الخطيرة، ومَنْ يقرأ السورة بشيء من الهدوء، والتخيل، وتصور الوضع الأخروي لهؤلاء الهمازين اللمازين لا يمكن له أن يقترف أيَّ: همز، أو لمز في حقِّ أحد فمن يتحمل تلك الأوصاف التي وُصِفت بها النار:(الحطمة ـ نار الله الموقدة ـ المطلعة على الأفئدة ـ مؤصدة ـ في عمد ممددة)، إنها أوصاف تهدُّ القلب، وتُقعِد الفؤاد عن النبض، كيف يتحمل الإنسان الضعيف كلَّ تلك الأوصاف؟!، أليس من الأجدى له ألا يهمز، وألا يلمز؟!، أليس الأولى أن يعيش مستقيمًا، لا يصدر عنه همز ولا لمز، ولا اغتياب ولا ارتياب؟، ولا جمع للمال، وتعداده؟!.

إنها أمراض يجب الحذر منها، والعمل بمقتضى الشرع فيها، والوقوف عند حدود الله، ولا نتعداها؛ حتى لا نقع في عواقبها الوخيمة، فكل السورة قيمٌ، وهي تطهِّر المجتمع من الرذائل التي تُودِي به، وتقضُّ مضاجعه، ويجب أن يتعلم الواحد منا ـ منذ نعومة أظفاره ـ احترام الآخرين، وحرمة الهمز واللمز، ووجوب توقير الناس، وإنزالهم منازلهم، ودوام النظر في عواقب ذلك، ولابد من وضع آيات، وجمل السورة الكريمة بين ناظرَيِ القارئ والمسلم بشكل عام، وتذكر تلك العواقب؛ حتى نستقيم على الطريق، ونعتدل على الصراط، فاللهم خذ بأيدينا إليك أخذ الكرام عليك، وأبعِدْ عنا الهمز واللمز، وجمعَ المال من الطريق الحرام، وتعداده، ولا احتقار الناس. فاللهم أبعدْ عنا الحطمة، وأوصافها، وأدخلنا جنانك الوارفة، وارزقنا نعيمَها، واشملنا برحمتك، وارزقنا الأخلاق العالية، والتعاملات السامية، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، نعم المولى، ونعم النصير، وصلى الله، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.



* كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية

[email protected]