محمود عدلي الشريف:
لقد منَّ الله تعالى علينا أن اختار لنا كتابه الخالد، ألا وهو القرآن الكريم، فما من شيء إلا وجمعه، وما من نافع إلا وحواه، وما ضار إلا نهانا عنه، وما من شيء مما سبق إلا أخبرنا عنه، وما من حاضر إلا نظمه لنا، وما من مستقبل إلا ونبأنا به.

وقد ورد (عَنْ أَبِي الْمُخْتَارِ الطَّائِيِّ، عَنِ ابْنِ أَخِي الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ:(كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ خَبَرُ مَا قَبْلَكَمْ، وَنَبَأُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، هُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ رَدٍّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، هُوَ الَّذِي مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، هُوَ الَّذِي مَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، خُذْهَا إِلَيْكَ يَا أَعْوَرُ) (مصنف ابن أبي شيبة، تحقيق: كمال يوسف الحوت 6/ 125).

بل ولا يمكن لمخلوق أن يجد فيه خطأ واحدًا أو اختلافًا واحدًا، على الرغم من أن أعداء الإسلام يبحثون في القرآن عبر العصور وعلى مر الدهور ليلًا ونهارًا، متنين أن يجدوا خطأ واحدًا فلم يجدوا، ولن يجدوا.

ناهيكم ـ إخواني الكرام ـ عن الدقة المحكمة التي تتحطم أمامها صخور التنقيب والنقد، فالذي أنزله وأحكمه هو الله، فضلًا عن الدقة فيما يقصده وما يشير إليه بتصويب من لا يخطئ، مستعملًا في ذلك الألفاظ الدالة على تلك الدقة، حتى لا يفهم من مقصود إلا ما يعنيه وما يقصده وليس سواه، وحينما نتأمل هذه الدقة نجد أنها دقة لا تتوافر كتاب إلا في كتاب الله تعالى، الذي تحدى الله به في كل زمان ومكان، وما من قصد يقصد القرآن الكريم من لفظ من ألفاظه إلا وجاء كما أراد، فدقته محكمة في سوره وآياته وجمله وكلماته بل وحروفه، نعم! دقته متناهية في أحكامه وشرعه وأمره ونهيه، دقته متناهة في إشاراته وتوجيهاته وما وسعه وما ضيقه، دقته متناهية في أحاديثه وقصصه وأخباره وأنبائه، حتى في حديثه عن بعض الأفراد الذين لم يذكرهم بأسمائهم، وإنما أشار إليهم بأفعالهم سواءً أكانت حسنة أم غير ذلك، فالقرآن العظيم حينما يتحدث عن هؤلاء الناس لم يذكر أسماءهم، وإنما ذكر أفعالهم، ولم يذكرها بصفة عامة قد تستوعب غيرهم، بل ذكر أدق لفظ يشير إلى تلك الأفعال، حتى لا يحتمل اللفظ أكثر من معنى، بل جاء بلفظ دقيق محكم مرتبط بالفعل ارتباطًا وثيقًا، لا يحتمل معنا آخر سواه، وهي دقة قرآنية إن دلت على شيء فإنما تدل على أن هذا الكلام هو كلام الواحد القهار، فسبحان من أنزله وأحكمه وحفظه.

وإليكم ـ إخواني الكرام ـ بعضًا من تلك الأمثلة الذي جاءت في كتاب الله تقصد أفرادًا بعينهم، ولا يقصد سواهم، وقد استخدم القرآن العظيم ألفاظا دقيقة دقيقة بحيث لا يشاركهم في هذا المقصود سواهم، فعلى سبيل المثال ـ لا الحصر ـ:(وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (التوبة ـ ١١٨)، وسبب نزول هذه الآية:(فيما رواه مسلم والبخاري وغيرهما. واللفظ لمسلم قال كعب: كنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله عز وجل:(وعلى الثلاثة الذين خلفوا) وليس الذي ذكر الله مما خلفنا تخلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه). وهذا الحديث فيه طول، والثلاثة الذين خلفوا هم: كعب بن مالك ومرارة بن ربيعة العامري وهلال ابن أمية الواقفي وكلهم من الأنصار.

وقد خرّج البخاري ومسلم حديثهم، قال كعب: فقل رجل يريد أن يتغيب يظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله تعالى وغزا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصعر فتجهز إليها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والمسلمون معه وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئا وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت! فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد فأصبح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) غازيًا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئًا ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا فلم يزل كذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فأدركهم فيا ليتني فعلت! ثم لم يقدر ذلك لي فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلًا مغموصًا عليه في النفاق أو رجلًا ممن عذر الله من الضعفاء ولم يذكرني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب بن مالك؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه برداه والنظر في عطفيه، فقال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد توجه قافلًا من تبوك حضرني بثي فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بم أخرج من سخطه غدا وأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي فلما قيل لي: إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد أظل قادمًا زاح عني الباطل حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدا، فأجمعت صدقه، وصبح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قادمًا، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلًا فقبل منهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائر هم إلى الله حتى جئت فلما سلمت تبسم تبسم المغضب ثم قال: تعال، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ قال: قلت: يا رسول الله، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولين حدثتك حديث صدق تجد علي فيه أني لأرجو فيه عقبى الله، والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك)، فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا! لقد عجزت في ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بما اعتذر به إليه المتخلفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لك!. قال: فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأكذب نفسي. قال: ثم قلت لهم هل لقي هذا معي من أحد؟ قالوا: نعم! لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك. قال قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن ربيعة العامري وهلال بن أمية الواقفي.

.. وللحديث بقية.

*[email protected]