محمود عدلي الشريف:
شاءت إرادة الله تعالى أن ينزل آدم إلى الأرض بعد أن أسكنه الجنة، وهو الأمر الذي كتبه عليه.

وقد أودع الله تعالى آدم وبنيه دين الفطرة (الإسلام) الذي تتوق الأرواح والأنفس إليه، وتظل الأخيرة ـ إن لم يرزقها الله الهداية ـ حائرة تائهة تدور في أفلاك الأفكار، ولا تهدأ أو يستقر قرارها إلا عندما تهتدي إلى الله، فإن لم تهتدي ـ وقد جيلت على التدين ـ تظل تبحث وتجد في بحثها، فتروي ظمأها وتشبع نهمها بتماثيل تتخذها آلهة تعبدها، لتستمد منها ذلك النور الذي تبحث عنه، ولذلك تعجب حتى يبلغ العجب منتهاه حينما ترى إنسانًا عاقلًا يخرُّ ساجدًا أمام بقرة أو يطلب المعونة من صنم صنعه بنفسه، مهما أوتي من علم تظل تلك الفطرة تلح عليه، وتهمين على خلجات نفسه، وتسرى به في غياهب الظلمات لعلها تهدي إلى النور ـ ولا عجب ـ فهي الفطرة الحاجة إلى التدين، التي جبل الله تعالى عليها خلقه.

كما أنه تعالى أخذ عليهم العهد في عالم الذر، ومنذ ذلك العهد لا تجد النفس غايتها ولا تصل إلى مبتغاها ولا يهدأ روعوها إلا إذا وصلت لعبادة خالقها الواحد الأحد، وقد تفضل الله تعالى على خلقه أن جعل لهم في الأرض توجها يؤوبون إليه وقبلة يتجهون إليها حتى يوثق ذلك الرابط ويشبع ذلك الجأش ويقوى ذلك الأيمان بهذه القبلة التي كلما اشتاق العبد إلى ربه توجه إليها، فيرجع من صلواته بالنور الذي أضاء له الطريق بداية من قلبه، وهذا التفضل من الله تعالى كان على بني آدم منذ الوهلة الأولى حيث آدم (عليه السلام)، ذكر (إسماعيل حقي) صاحب التفسير المسمى (روح البيان (1/ 230): رواية تفيد ما أقصده من أن النفس تحتاج إلى رمز تركن إليه وإلى مكانه تلتمس منه النور، وتقوي به صلتها بخالقها فيقول:(فلما اهبط الله تعالى آدم الى الأرض استوحش فشكا إلى الله، فأنزل الله البيت المعمور من ياقوتة من يواقيت الجنة، له بابان من زمرد اخضر باب شرقي وباب غربي، فوضعه على موضع البيت ـ أي الحرام ـ وقال يا آدم إني أهبطت لك بيتا فطف به كما يطاف حول عرشي، وصل عنده كما يصلى عند عرشي، وأنزل الحجر وكان أبيض، فاسود من لمس الحِيض في الجاهلية، فتوجه آدم من أرض الهند إلى مكة ماشيًا، وقيض الله له ملكا يدله على البيت، قيل لمجاهد: لِم لَم يركب؟ قال: وأي شيء كان يحمله إن خطوته مسيرة ثلاثة أيام، فأتى مكة وحج البيت وأقام المناسك، فلما فرغ تلقته الملائكة فقالوا: برّ حجك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام، قال ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ حج آدم أربعين حجة من الهند إلى مكة على رجليه فبقي البيت يطوف به هو والمؤمنون من ولده) (تفسير روح البيان 1/ 230).

وسواء أكانت هذه الرواية صحيحة أم أنها من الإسرائيليات ـ على الرغم من أنها جاءت في أكثر من كتاب ـ إلا أنني استوقفتني عندها ثلاث جمل، أريد أن أستوضحها ـ معكم ـ فالجملة الأولى (فلما اهبط الله تعالى آدم الى الأرض استوحش فشكا إلى الله) لماذا استوحش آدم؟ والإجابة بسيطة جدًّا: لأنه كان في السماء بين الملائكة وهو الركع السجود، وكان (عليه السلام) بينهم يأوي إلى ركن شديد ويؤكد ذلك الرواية السابقة التي جاء فيها، وقال: يا آدم إني أهبطت لك بيتا فطف به كما يطاف حول عرشي، وصل عنده كما يصلى عند عرشي، فقد رأى آدم هذا بعينيه وهو ما كان يطمئن نفسه ويجعله في تشبع إيماني، وقبله موصول بالله، فلما نزل إلى الأرض غاب عنه كل هذا فاستوحش أي شعر بالوحشة والغربة والحرمان والحاجة والاستزادة، ولكنه كان لم يجد لذلك علاجًا فشكا إلى الله، ولماذا هذه الشكوى؟ إنها جاءت نتيجة للإلحاح شديد هائج كالبركان في داخله، ولهذا جاء العلاج من العناية الإلهية بأن أمره أن يذهب إلى ذلك البيت ليطوف به ويستمد منه النور، الجملة الثانية:(فتوجه آدم من أرض الهند إلى مكة ماشيًا).

تخيلوا ـ إخواني الكرام ـ هذا الشوق والاشتياق الشديدين اللذين جعلاه يمشي من الهند إلى مكة ماشيًا، وصدق الله العظيم إذ يقول:(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (البقرة ـ ١٢٥)، يقول الإمام الطبري: و(البيت) الذي جعله الله مثابة للناس، هو البيت الحرام، وأما (المثابة) فإن أهل العربية مختلفون في معناها، والسبب الذي من أجله أنثت، قال بعض نحويي البصرة: ألحقت الهاء في (المثابة)، لما كثر من يثوب إليه، كما يقال:(سيارة) لمن يكثر ذلك، و(المثابة: مفعلة، من ثاب القوم إلى الموضع)، إذا رجعوا إليه، فهم يثوبون إليه مثابًا ومثابة وثوابًا وإذ جعلنا البيت مرجعًا للناس ومعاذًا، يأتونه كل عام ويرجعون إليه، فلا يقضون منه وطرًا، لا يدعه الإنسان إذا أتاه مرة أن يعود إليه، يثوبون إليه من البلدان كلها ويأتونه) (تفسير الطبري، المسمى: جامع البيان، ت: شاكر (2/ 26) باختصار.

وأما الجملة الثالثة:(من الهند إلى مكة على رجليه) أليس ذلك يدل على ما ذكرنا من النهم التي يجعل النفس أئمة في تيه عميق، لا تخرج منه إلا إذا اهتدت إلى ربها ، وكما ذكرت أنها تعاني من هذا الداء، إما أن تأخذ العلاج بتوحيدها لله تعالى وهي أعظم نعمة من خالقها، أو أنها تأخذ مسكنات وهمية تهدئها ظاهريا لا تعالج الباطن، تلك المهدئات تتمثل لها في عبادة غير الله من الأصنام أو الأوثان.

والخلاصة: أن الله تعالى أنعم على آدم وبينه بهذا البيت العتيق كما جاء في (روح البيان (1/ 230) ـ مرجع سابق:(روي عن ابن عباس ـ رضى الله تعالى عنهما ـ أنه قال: لما أهبط الله تعالى آدم من الجنة إلى الأرض، قال له: يا آدم اذهب فابن لي بيتا وطف به، واذكرني عنده كما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي، فأقبل آدم يتخطى وطويت له الأرض وقبضت له المفاوز، فلا يقع قدمه على شيء من الأرض إلا صار عامرًا، حتى انتهى إلى موضع البيت الحرام، وإن جبرائيل ضرب بجناحه الأرض فأبرز عن الاس الثابت على الأرض السابعة السفلى، وقدمت إليه الملائكة بالصخر، فما يطيق حمل الصخرة منها ثلاثون رجلًا، وإنه بناه من خمسة ـ جبال: جبل طور سيناء وطور زيتاء ولبنان ـ وهو جبل بالشام ـ والجودي ـ وهو جبل بالجزيرة ـ وحراء ـ وهو جبل بمكة ـ وكان ربضه من حراء أي الأساس المستدير بالبيت من الصخر فهذا بناء آدم ..).

ومن هنا يتبين لنا ـ إخوة الإيمان ـ أنّ النفس مع حاجتها الملحة إلى التدين، لابد لها من شيء محسوس تتعلق به مع إيمانها القلبي ويقينها الفطري، الأمر الذي ظهر لنا عبر التاريخ مع أهل التوحيد وأهل الشرك، فأما أهل التوحيد فقد تمسكوا ببيوت الله وكتبه ورسله، وأما أهل الباطل فقد بحثوا عن نفس الهدف، ولكن ضلالهم جعلهم يتشبثون بما خيلت لهم عقولهم، ولذا: فما الذي جعل المجوس يشعلون النار؟ وما الذي جعل المشركون ينصبون الأصنام والأوثان؟؟

.. وللحديث بقية.

*[email protected]