مستوحى من مختلف التفاعلات الاجتماعية

ظهر المسرح كتعبير عن تفاعلات الإنسان والبيئة المحيطة به, وصراعات البشر المختلفة اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا, ومردودات ذلك سياسيا, فيما عبر المسرح منذ القدم عن رؤية البشر لحياتهم وماضيهم وتطلعاتهم نحو المستقبل برسم خيوط تربط هذه المراحل من تاريخهم, والرسالة التأسيسية للمسرح كانت منذ البدايات نحو تحقيق التثقيف والتوعية والتنوير فى إطار فلسفة طرحها أرسطو فى كتابة "فن الشعر" عندما قرر أن علاقة المسرح بالمتفرج هى علاقة إثارة الشفقة والتطهر فى مواجهة الصراعات العاتية مع القدر.

المشهد المسرحى
يرصد المؤلف مدحت الكاشف تطور المفهوم الاجتماعي للمسرح عبر العصور منذ ما عرف بغريزة التمثيل عند الإنسان البدائى، فيركز على العلاقة بين المسرح والإنسان منذ المسرح الإغريقي في الغرب، وكذلك المسرح الصيني والياباني والهندي في الشرق الأقصى، ويتابع الدور الاجتماعي للمسرح منذ البدايات عند الإغريق وحتى القرن العشرين، مركزا على الاتجاهات المسرحية الرئيسية في المسرح المعاصر التي أسست تقنيات أدائية من أجل تأكيد العلاقة بين المسرح والمجتمع. كما يلقى المؤلف الضوء على محاولات العلوم الإنسانية الحديثة التي سعت لإعادة تعريف الفن المسرحي في علاقته بالمجتمع، وتحليل تقنيات الإخراج المسرحي بين العرض الملحمي عند (برتولد بريشت), والعرض الأنثروبولوجي المسرحي عند (أيوجينيو باربا) في محاولة للربط بين المنهجين. ويعرض الكاتب ثنائية الممثل والدور عند كل منهما وأسلوبيهما في إعداد الممثل وتدريبه وفق أسس محددة، وكذلك أساليبهما في تصميم الحيز المسرحي الذي يجمع بين المؤدين والمتفرجين بما يحقق غرضا اجتماعـيا للـمسرح.
وقد اهتم المسرح عند اليونان بالدور الاجتماعى الذى يلعبه المتلقى فى العملية الابداعية, حيث كان ظهور الدراما كجزء من الاحتفالات والطقوس الدينية بمثابة حلقة وصل بينها وبين التجربة الدينية للمتفرج, حيث كان وجود الكورس ضمن الاوكسترا يعكس عدم وجود حاجز مادى بين الجمهور والمؤدى, يناظره عدم وجود حاجز روحى أيضا. إلا أن المسرح الرومانى انفرد بظهور عروض تهريجية وكوميدية للترفيه عن الجمهور من وجهة نظر انشغالهم بالصراعات ورغبتهم فى الخروج من دائرتها, ومن ثم تجلت أيضا عروض مسرحية كانت تعبر عن القتال والتصادم والحروب بل وحولت المسرح آنذاك إلى ساحة قتال بين الأبطال الذين عبروا عن روح الرغبة فى تحقيق الانتصار وإلحاق الهزيمة بالأعداء. ولعل المسرح الإيطالى قد تفرد لقرون طويلة بالأعمال المصاغة من أجل المهمشين بلمحات كوميدية فنية تبلورت من خلال تجمعات الفنانين حول تحويل القضايا الاجتماعية إلى بانوراما هزلية تجمع بين النقد والسخرية والكوميديا لتعبر عن روح تهميش بعض طبقات المجتمع.

تطورات فنية
يستعرض الكاتب معالجة المسرح الإيطالى لفترة زمنية طويلة مشاكل الانحراف من قبل المهمشين والصعاليك وبعض المشكلات السلوكية فى التفاعلات الاجتماعية التى خلفت انحرافا كبيرا عن القيم نحو اللهث وراء الشهوات والماديات. وتجلت صرعات المسرح فى عصر النهضة حيث أفرز مسرحيات أدبية حاولت محاكاة المسرح الاغريقى بعد تجريده من الأساطير, ومن ثم تحول الصراع الذى كان قائما بين الآلهة والبشر آنذاك إلى صراع نفسى اجتماعى يصور الانشطة الاجتماعية فى أعنف تفاعلاتها النفسية. ثم بدأت الحركة المسرحية العالمية تتجه صوب المشروع الاقتصادى عندما انتقل من مرحلة الهواية والتجوال إلى الاحترافية والاستقرار, فيما تحولت رسالة المسرح بعد ذلك إلى كونها أداة للكسب المادى لتفرز البحث عن المتفرجين من طبقات تقدر على دفع تكاليف المشاهدة وأجور الممثلين ومقابل التكاليف من خلال تذاكر غالية الثمن بالنسبة للبسطاء والمهمشين, رغم أن معظم مسرحيات هذا العصر كانت تقدم صورة للصراع بين الأغنياء والفقراء لتكون غير هادفة إلا للربح فى ظل انفراد أصحاب الأموال بدخول ومشاهدة هذه الفنون نتيجة مقدرتهم المالية, بينما الطرف الآخر الذى يصوره العمل المسرحى هم الفقراء مهمشين اجتماعيا وحتى مسرحيا لعدم قدرتهم على حضور تلك العروض. ولما وصلت انعكاسات الثورة الصناعية إلى آماد بعيدة باتت نظرة المسرح للمجتمع أكثر مادية وعلمية, وهو الأمر الذى بشر بصعود نجم المذهب الطبيعى الذى دعا إلى محاولة نقل الواقع كما هو دون زخارف أو شكليات, والذى تبلور من خلال الأعمال الأدبية لزولا وأوجست ستريندبراج , والذى تأكد من خلال فن العرض المسرحى وتقنياته التى جاءت لخدمة أغراض الطبيعيين من خلال تجربة المسرح الحر عند كل من أندريه أنطوان فى باريس, وأوتوبراهم فى ألمانيا, اللذين اهتما بتقديم البيئة الطبيعية على خشبة المسرح, الأمر الذى كان له أكبر الأثر فى تنقية وتقنية الأداء التمثيلى الذى أصبح أكثر إنسانية وقوة وامتلاء بالحياة. لقد أراد الطبيعيون مواجهة أشكال المليودراما الزائفة والرومانسية بنقد للاوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من منظور الهجوم عليها لتغييرها. أما فى القرن العشرين فقد اهتم المؤدون بالمسرح فى غالبية بقاع الأرض بنماذج تحاكى المجتمع, وتنم عن كافة الصراعات, وتقدم الفكاهة والنقد والتورية وروح العصر, وتقدم ذوقا رفيعا وآخر شعبىا , وأحيانا وثائقيا وتاريخيا, فالمسرح بات صورة للسلوكيات وآفاق التاريخ, وحل المشكلات والتحديات, وبانوراما صراعات الخير والشر, وطرح رؤى القضايا السياسية والاجتماعية من منظور البحث عن حلول, بجانب خوض منظورات سياسية للقضايا الراهنة تصل لدرجة تغليبها على روح المسرح بما يسمى بالفانتازيا الفنية الناقدة للواقع.