د.جمال عبد العزيز أحمد:
.. والسؤال الذي تفوهوا به هو سؤال لا يحق لهم، لأن كل ملة لها نظامها، وطبيعتها، وما تكلم أحد في اتباعهم هم أنفسهم لأي قبلة، ولا تدخل في شؤونهم حتى يقولوا ـ كما حكى القرآن الكريم:(ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟)، أي: شيء وجههم إلى ترك القبلة التي كنا نتوجه معهم فيها، وكانوا عليها ردحا من الزمن؟!.

وبدأ التشكيك منهم، وإشاعة الفتنة بين المسلمين، قائلين : إذا كنتم قد تحولتم، وتركتم القبلة التي صليتم إليها طويلًا، ومات منكم ناس لم يشهدوا هذا التحويل، فما موقغ صلاتهم وصلاتكم، فقد ضاع إذن إيمانكم، وراح ثواب صلاتكم، وأجر طاعتكم، وبدأت الفتنة، وهم أسيادها، ومشعلوها، فرد الله تعالى عن أمة محمد تلك الفتنة كاتما أنفاس قائليها، بأنه ما كان الله ليضيع صلاة أحد، ولا طاعته، فقال:(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚإِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ) (البقرة 143)، فالله أكرم من أن يأمر بشيء، ويضيع فيه على الناس طاعاتهم، وقد سمى الصلاة إيمانًا لقدسيتها، ولأها محرك الإيمان، ومنشئه، ومزوده، وأصل وجوده، تسمية للشيء باسم سببه، ولبيان مكانة الصلاة، وأنها طريق الإيمان الحقيقي للعبد،وهي الصلة الحميمية بينه وبين ربه، وهي معراجه اليومي إلى مولاه.

فسؤالهم هذا يدل على جهلهم من جانب، وجرأتهم على غيرهم من أهل الديانات الأخرى من جانب آخر، وتدخلهم فيما لا يعنيهم،وجرأتهم في قولهم:(ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟)، ولا يعرفون أن أمر الطاعة، وشأن العبادة هو أمر إلهي، توقيفي، لا توفيقي، أو اختياري، فلا يحق لأحد أن يفرض قبلة، ولا لونا من الطاعة على أحد، ولا يأخذ حق الله في ذلك، فهم في سؤالهم متجاوزون حدودهم، متجرئون على مولاهم، خادشون لخلق الحياء، خارقون لكل أدب، واحترام للآخر ، والله تعالى قد تولى شأن الرد عليهم في ذلك، وجاء ردًّا يتلى إلى يوم القيامة بأن حق وثواب المسلم في الطاعة مضمون: حيًّا وميتًا، فرضًا ونسخًا، وقد تحولت القبلة، وتحقق مأمول، ورجاء الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم):(قد نرى تقلب وجهك في السماء)، وهو كناية عن حب تميزه في العبادة، وتفرده بقبلة لا يشاركه فيها أحد، فتقليب الوجه كناية عن الإلحاح، والإلحاف في السؤال، وتوجه القلب، ومحبة الفؤاد، وتمني النفس، والروح إلى التوجه إلى الكعبة، ولما وجد الله حب رسوله كبيرًا في التوجه في الصلاة إلى البيت الحرام لبى رجاءه، وحقق أمله، وصار البيت الحرام إلى يوم القيامة هو قبلة المسلمين التي أفردتهم، وميزتهم، وجعلتهم نسيج وحدهم، لا يتبعون أحدًا، ولا يأتمون بأحد، إنما هم ـ جميعًا على قلب رجل واحد ـ متوجهون إلى الكعبة التي هي أول بيت وضع للناس، وهي متوجه أبيهم إبراهيم، وابنه إسماعيل اللذين بنيا البيت الحرام؛ لتتجمع القلوب، وتتحد الأفئدة، وتتوحد النفوس حول بيت واحد يتجهون إليه في عباداتهم، بدل هذا التشتيت الذي نراه في أهل الملل، والنحل الموجودة على أرض الله، ثم يقول الله تعالى:(قل لله المشرق والمغرب) هذه جملة اسمية تقدم فيها الخبر جوازا للاهتمام، وبيان العظمة، ولمن يكون التوجه:(المشرق كل الشرق، والمغرب كل المغرب) أي: كل الدنيا لله، والله تعالى إذا أمر وجب اتباع أمره، وإذا نهى لزم المصير، ووجب المسير إلى نهيه.

وفي الشرق، والغرب تضاد، ويشمل الكرة الأرضية جميعا، فالأرض لها مشرق، ومغرب، ثم شمال، وجنوب، فهو كناية عن كون الملك والملكوت كله لله: شرقًا، وغربًا، وشمالًا، وجنوبًا، وتوضيح كذلك أن أمره وطلبه هو عين الهداية، وينبوع النور والهدى:(يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)، فسواءً أمرهم في أول حياتهم بالتوجه إلى المسجد الأقصى، أو بعد ستة عشر شهرًا أمرهم بالتوجه إلى الكعبة، كل ذلك في صالحهم، ويصب في صالحهم، وهدايتهم، والفعل: (يهدي) مضارع يفيد الاستمرار، والفاعل هو الله عز وجل، و(من) هنا موصولة، يدخل تحتها الرجال والنساء، الشباب والشيب، البيض والسود، العرب وغير العرب، ومعمول الصلة محذوف، (أي: يهدي من يشاؤه ..) و(الصراط) هو الطريق الواضح، و(المستقيم) هو المعتدل، فكأن الصراط نفسه يعرف هدفه، ويدرك غايته، ويحسن فهم وظيفته، فهو مستقيم (اسم فاعل)، فمن وضع قدمه على الصراط وصل إلى الغاية، وأدرك الهدف، لأن الطريق نفسه مستقيم، وحرف الجر:(إلى) يفيد انتهاء الغاية المكانية، فالهداية محددة الهدف، وواضحة الطريق إليها، فهو طريق محدد، مسلوك من الصالحين الطائعين، المصلحين المخبتين، وهو مستقيم، معتدل،إذا مضى المرء فيه وصل، ولا مفر من وصوله، وبلغ الغاية لا محيص من ذلك، وهو كناية عن جمال، وجلال الاتباع، وأنه مضمون النتيجة، وموثوق المآل.

وبين (سيقول، وقل) جناس غير تام حيث المضارع، والأمر، وبين (المشرق والمغرب) تضاد يبين المعنى، ويوضحه، وكما قالوا:(وبضدها تتميز الأشياء/ والضد يظهر حسنه الضد)، وهو كناية عن شمول الدنيا كلها ـ كما أسلفت ـ وكناية كذلك عن سعة ملك الله، وكامل قيوميته على كونه، وشامل علمه بكل أزمنة البشر، وأن مشيئته دائمة في كل عصر، وزمن، وهدايته لخلقه الصالحين موصولة، ومضمونة، والطريق المستقيم مستمر لكل من سلكه.

هكذا بدت الحكمة من تحويل القبلة، وجمال قيمها وجلال تربوياتها، كما ظهرت بلاغة التركيب على قصر كلماته، وقليل ألفاظه، وعباراته، وهكذا هو القرآن الكريم لا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد.

* جامعة القاهرة بكلية دار العلوم ـ جمهورية مصر العربية.

[email protected]*