محمود عدلي الشريف:
وقف بنا الحديث ـ إخوة الإيمان والإسلام ـ في الحلقة الماضية عند التدين الذي جُبلت عليه الخليقة، وقد تحدثت فيما سبق عن الحيرة التي تنتاب الأنفس إذا لم تتدين، فلا تهدأ إلا إذا تدينت بدين الحق وعندها تجدها قد ارتاحت واطمأنت، وقد تهدأ مؤقتًا وتسكن آلامها وتظن أنها على صواب إذا ضلت وتخيلت أن الباطل هو الحق، فيتمثل لها ذلك في بقرة أو صنم أو صليب أو هيكل أو وثن، وحتى يخرج الله تعالى خلقه من غياهب تلك الظلمات أرسل إليهم رسلًا في كل أمة وعبر كل زمن، ولحاجة الناس إلى شيء ملموس يرجعون إليه، الأمر الذي من أجله بنيت وعُمرت بيوت الله في الأرض، وعلى جه الخصوص بيت الحرام الذي بنته الملائكة أو ساعدت آدم في بنائه، وظل البيت الحرام هو قبلة التوحيد منذ أن بناه آدم بمساعدة الملائكة، وسيظل كذا إلى أن تقوم الساعة، على الرغم من عدم وجوده في بعض حقب التاريخ.

فبعد زمن آدم ظل البيت الحرام ملاذًا لبني آدم (لم يزل معمورًا يعمرونه ومن بعدهم حتى كان زمن نوح فنسفه الغرق وخفي مكانه) (سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 1/ 148)، فلما جاء الطوفان في زمن نوح (عليه السلام)، يقول أبو الليث السمرقندي في تفسيره المسمى (بحر العلوم 2/ 152):(روي عن الحسن أنه قال: ارتفع الماء فوق كل جبل وكل شيء، ثلاثين ذراعًا، وسارت بهم السفينة، فطافت بهم الأرض كلها في خمسة أشهر، ما استقرت على شيء، حتى أتت الحرم فلم تدخله، ودارت بالحرم أسبوعًا، ورفع البيت الذي بناه آدم إلى السماء السادسة، وهو البيت المعمور، وجعل الحجر الأسود على أبي قبيس. ويقال: أودع فيه، ثم ذهبت السفينة في الأرض حتى انتهت بهم إلى الجودي، وهو جبل بأرض الموصل، فاستقرت عليه بعد خمسة أشهر. .اه)، وقال مقاتل:(لم يرفع، وإنما جاءجبريل فأخذ الركن والمقام فأودعهما في جبل أبي قبيس، وخرب البيت فبقي موضعه ربوة حمراء) (مرآة الزمان في تواريخ الأعيان 1/ 327)، (فلما جاء زمن سيدنا إبراهيم (عليه السلام) أوحى إلى إبراهيم (عليه السلام) يأمره بالمسير إلى بلده الحرام فركب إبراهيم البراق وجعل إسماعيل أمامه ـ وهو ابن سنتين ـ وهاجر خلفه ومعه جبريل يدلّه على موضع البيت ومعالم الحرم، حتى قدم مكة، وكان موضع البيت قد دثر وهو ربوة حمراء مدرة، وهو يشرف على ما حوله، فقال جبريل (عليه السلام) حين دخل من كداء، وهو الجبل الذي يطلعك على الحجون والمقبرة: بهذا أمرت. قال إبراهيم بهذا أمرت ؟...اه) (سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ـ مرجع سابق (1/ 148، باختصار)، (ثم لبث عنهم إبراهيم ما شاء الله تعالى ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة قريبًا من زمزم.. ثم قال: يا إسماعيل أن الله تعالى أمرني بأمر. فقال: اصنع ما أمرك به. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً. وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها قال: فعند ذلك رفع القواعد من البيت) (المرجع السابق 1/ 154، باختصار كبير).

وهكذا ظل البيت الحرام مطلبًا ومزارًا مقدّسًا للعرب .. وغيرهم على الرغم من شركهم بالله، وهذا دليل على احتياج الناس إلى التدين، والتمسك بشيء حسي يأتون إليه من صوب وحدب يشعرون من خلاله بقربهم من خالقهم، أن الناس في الجاهلية كانوا كفارًا ومشركين يجعلون لله تعالى أندادًا، ومع ذلك كانوا يعظمون البيت الحرام ولا ينقطعون عن زيارته كلما أتيحت لهم الفرصة.

وهنا سؤال أوقفته الضرورة بين أيدينا، والسؤال يقول: لماذا كان التوجه إلى بيت المقدس على الرغم من أن المسجد الحرام موجود؟ وهل كان بوحي من الله تعالى أم أنه كان من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نفسه؟ وقبل أن أجيب على هذا السؤال ـ إخوة التوحيد ـ هيا بنا نتفق على أن المسجد الحرام والمسجد الأقصى كلاهما بيوت الله، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ:(لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمَسْجِدِ الأَقْصَى) (صحيح البخاري 2/ 60 برقم: 1189)، وهو عند (مسلم برقم: 1397 وعند غيرهما)، وأن الله تعالى أن الله تعالى كرمهما وشرفهما وزاد فضلهما، غير أن البيت الحرام له أفضلية خاصة عن بيت المقدس، فعَن أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَن أَبِي الدَّرْدَاءِ ـ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّم):(فَضْلُ الصَّلاةِ فِي المسجد الحرام على غيره مِئَة أَلْفِ صَلاةٍ وَفِي مَسْجِدِي أَلْفُ صَلاةٍ وَفِي مسجد بيت المقدس خمسمِئَة صَلاةٍ) (مسند البزار المسمى البحر الزخار 10/ 77، برقم: 4142)، ورواه صاحب (شعب الإيمان 6/ 39)، وزاد (فْظُ حَدِيثِهِمَا سَوَاءٌ غَيْرَ أَنَّ الصَّغَانِيَّ، قَالَ: بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ) ولنتفق أيضًا أن الذي بناهما هو سيدنا إبراهيم (عليه السلام) نفسه، ففي (صحيح البخاري 4/ 145، برقم: 3366): حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ أَوَّلَ؟ قَالَ: المَسْجِدُ الحَرَامُ، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: المَسْجِدُ الأَقْصَى، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاَةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ، فَإِنَّ الفَضْلَ فِيهِ).

وعودًا إلى السؤال الذي اعترض طريقنا، فنجيب عليه بما يلي: كان من الطبيعي أن يتركز التوجه إلى المسجد الأقصى فقد سكنه الأنبياء تلو الأنبياء، فالأحرى أن يتوجهوا إلى الله تعالى من خلاله، كما أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يتوجه إليه لأنه كان يدرك أن مكانة بيت المقدس مهبط الأنبياء، وكان يتمنى أن يتبع اليهود، (عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَالَا: أَوَّلُ مَا نُسِخَ مِنَ الْقُرْآنِ الْقِبْلَةُ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَانَ يَسْتَقْبِلُ صَخْرَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهِيَ قِبْلَةُ الْيَهُودِ، فَاسْتَقْبَلَهَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا لِيُؤْمِنُوا بِهِ وَيَتَّبِعُوهُ، وَيَدَعُوا بِذَلِكَ الْأُمِّيِّينَ مِنَ الْعَرَبِ)، (كذا ذكر القرطبي في تفسيره 2/ 622)، بالإضافة إلى أنه يعلم أن ما حول الكعبة تماثيل وأصنام، أما ما حول المسجد الأقصى فهو مبارك، وأن أهل الكتاب لديهم كتب جاء بها الأنبياء فهم أكثر من غيرهم معرفة به وتصديقًا لدعوته ـ إن أخلصوا ـ الأمر الذي جعله يتوجه إلى المسجد الأقصى، قال أبو العالية: إنّ نبيّ الله (صلى الله عليه وسلم) خُيّر أن يوجِّه وجهه حيث شاء، فاختار بيت المقدس لكي يتألَّف أهلَ الكتاب) (المرجع السابق 3/ 138).

والإجابة عن الشطر الثاني من السؤال: هل كان ذلك بأمر من الله أم باجتهاد منه (صلى الله عليه وسلم) فقد أجاب الإمام القرطبي عنه فقال: قَالَ الرَّبِيعُ، قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ خُيِّرَ أَنْ يُوَجِّهَ وَجْهَهُ حَيْثُ شَاءَ، فَاخْتَارَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ لِكَيْ يَتَأَلَّفَ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَكَانَتْ قِبْلَتُهُ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يُقَلِّبُ وَجْهَهُ فِي السَّمَاءِ ثُمَّ وَجَّهَهُ اللَّهُ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ" وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ فِعْلُ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَصْحَابِهِ بِفَرْضِ اللَّهِ عَزَّ ذِكْرُهُ عَلَيْهِمْ)، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ قَالَ:(لَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْيَهُودُ، أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَفَرِحَتِ الْيَهُودُ فَاسْتَقْبَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَضْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُحِبُّ قِبْلَةَ إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ وَكَانَ يَدْعُو وَيَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (البقرة ـ ١٤٤)، فَارْتَابَ مِنْ ذَلِكَ الْيَهُودُ، وَقَالوا:(سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ..) (البقرة ـ ١٤٢)، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل:(ﱠ .. قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة ـ ١٤٢) (تفسير الطبري 2/ 623).

.. وللحديث بقية.

*[email protected]