[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
” يتحدث المستشار طارق البشري بلسان صدق حين يؤكد أن القضاة لم يخطؤوا بل أصدروا أحكاما تقتضيها بنود المجلة الجنائية التي أمامهم وتقتضيها ضمائرهم لأن تحديد المسؤولية الشخصية مثلا في مقتل المتظاهرين صعب بل مستحيل لأنه ما من أحد يمكنه إثبات البينة على أن الرئيس مبارك أو حبيب العدلي أصدرا تعليمات مكتوبة واضحة موثقة بقتل المتظاهرين...”
ــــــــــــــــــــــــــــــــ

يسألني عديد الأصدقاء هذه الأيام في المجالس: ما رأيك في الحكم بالبراءة الصادر في مصر عن محكمة الاستئناف لفائدة الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك؟ وهل أخطأ القضاة أم أصابوا وبمعنى أصح هل عدلوا في حكمهم باستقلالية ونزاهة أم ظلموا الشعب وخانوا الثورة وإنحازوا للنظام الذي أطاح بمرسي؟ ثم وفي سياق الانشغال بنفس المحاور السياسية ينتقل أصدقائي إلى ما يجري في تونس بالنظر إلى تشابه الحالتين منذ إسقاط الرئيسين الأسبقين بن علي ومبارك وما حدث بعد ذلك من انفلات أمني وتخبط سياسي وأزمة اقتصادية وهبوط عام في الممارسات الأخلاقية وانحطاط مزر في الخطاب فيتساءلون بنفس التطلع للمعرفة: كيف تعود بعض رموز الفساد والاستبداد في مصر وفي تونس في العهدين المباركي والنوفمبري إلى صدارة الترشحات التشريعية وحتى الرئاسية بعد أن قامت على منظومتهم ثورة عارمة ويضيف بعض السائلين: أين القضاء؟ أين قانون العزل؟ أين العدالة الانتقالية والتي لم تنتقل! ثم أين ضمائر هؤلاء المتسللين لاستعادة سلطة لم يسخروها لخدمة المواطنين والوطن فلفظهم الناس لفظ النوى؟ وأين وعي الناس بدقة اللحظة فحصل ما حصل من نتائج الاقتراع، حيث رجع للفضاء السياسي بعض رجال ونساء ساهموا في هتك ستر الدولة و إيذاء الشعب وضحكوا على ذقوننا لمدة 23 سنة من النظام المقبور وهي ليست فقط جرأة في الباطل بل استبلاه لأحد عشر مليون تونسي! والجواب على هذه التساؤلات المشروعة جاءنا في الواقع من صناديق الاقتراع فمرغت النسب الصفرية التي تحصل عليها هؤلاء أنوفهم في الوحل والخزي وعادوا إلى بيوتهم خاسرين خاسئين يجرون عار صفر فاصل إلى الأبد بل نالهم انتقام زوجاتهم الخائبات بعد أن وعدوهن أن يجعلوا منهن السيدة الأولى!
الإجابة القانونية المتميزة على أسئلة أصدقائي عما يجري في مصر وفي تونس لم يأت مني بل أنا استفدت غاية الاستفادة من تحليل زميل كبير وفقيه قانون محترم هو الأستاذ مستشار مجلس الدولة المصري د.طارق البشري ـ حفظه الله نصيرا للحق ـ وأنا أذكر أحاديثي المطولة معه في عديد المؤتمرات والندوات العربية التي ندعى إليها معا وكنت اغتنم فرصة لقاءاتي به لأستزيد من علمه ومن علم الأستاذ أحمد كمال أبو المجد والرجلان من الأبناء العلميين لأستاذ القانون الدستوري عبد الرزاق السنهوري. وحين يتكلم المستشار طارق البشري يذكرني بأستاذ القانون الدستوري التونسي قيس سعيد بلغته القوية وشخصيته المستقلة. ونعود إلى الموضوع الذي نتداوله اليوم حول مسؤولية رموز الأنظمة البائدة وهل هي جزائية جنائية أم هي سياسية أخلاقية ؟ يتحدث المستشار طارق البشري بلسان صدق حين يؤكد أن القضاة لم يخطؤوا بل أصدروا أحكاما تقتضيها بنود المجلة الجنائية التي أمامهم وتقتضيها ضمائرهم لأن تحديد المسؤولية الشخصية مثلا في مقتل المتظاهرين صعب بل مستحيل لأنه ما من أحد يمكنه إثبات البينة على أن الرئيس مبارك أو حبيب العدلي أصدرا تعليمات مكتوبة واضحة موثقة بقتل المتظاهرين أو أن هذا أو ذاك من رجال الأمن لم يكن في حالة دفاع غريزي وبالتالي شرعي عن حياته حين هاجمه جمع من المتظاهرين مسلحين بأي شيء يهددون حياته. والاستنتاج إذن هو أن استعمال أداة القضاء لتصفية تركة الفساد والإستبداد في مصر كما في تونس ما هو سوى إنقاذ الطغاة من الإدانة السياسية والأخلاقية ووضعهم أمام قضاة في أقفاص المحاكم والتي في النهاية وبكل نزاهة وشفافية ستبرأهم من التهم المنسوبة إليهم وإلى أولادهم وأصهارهم ووزرائهم وكذلك التهم المتعلقة بالفساد والرشاوي فإنه يصعب إثباتها عليهم لأن منظومة الفساد المالي هي منظومة مافيوزية (نسبة للمافيا) كانت وربما لا تزال متشابكة معقدة ومتقاطعة مع صفقات حكومية رسمية ووثائقها سليمة (مية لمية) والحجج القانونية موجودة بترويسات الوزارات وسلامة النوايا (صحتها زي البمب على رأي إخوتنا المصريين) أي إن لصوص المليارات في الحقيقة لا يلقون أبدا مصير لصوص 12 بيضة من سوبر ماركت! كما أن قاتل شخص يحكم بالإعدام بينما قاتل 2500 بريئ من غزة مثل نتنياهو يعتبر مدافعا عن أمن إسرائيل! هكذا منطق العالم المقلوب والجائر!
يقول أستاذنا د.طارق البشري: "إن وضع هذه القضيّة أمام القضاء، يعني حشرها في إطار التفاصيل الجزئية، والوقائع المشكوك فيها، والفرعيات التي تميعها، والتي هدفها الخفي أن تصرف النظر عن الجرائم السياسيّة الحقيقية، التي ارتكبها نظام مبارك.
" قضى هذا النظام على استقلال مصر والإرادة الوطنيّة المستقلّة للدولة المصريّة، في مواجهة قوى الغرب والولايات المتحدة بصفة خاصة، وحطّم الكثير من مجالات النشاط الاقتصادي في البلاد، من صناعات وغيرها من المجالات، وفكّك هيئات كثيرة في الدولة والمجتمع المدني". ويواصل د.البشري تحليله فيضيف:" كتبت ذلك مراراً وأثرته في المرحلة الأخيرة من حكم مبارك، ومن أجل هذه الجرائم قامت الثورة، وهذا ما كان يجب أن يُحاسب عليه مبارك. كان المطلوب في ذلك الوقت، تشكيل هيئة تحاسبه وتحاسب أعوانه على ما قاموا به ضد المصلحة الوطنية والشعبيّة، وتبرّر في الوقت ذاته قيام الثورة" .
هذا تشخيص د.البشري للحالة المصرية التي تم فيها تهريب مبارك وأعوانه من المحاسبة الحقيقية التي تتلاءم مع الأضرار الحاصلة للدولة وللمواطنين جراءها وما تهريبه مع معاونيه إلى ساحة القضاء سوى حيلة لإنقاذهم من تحمل تبعات أخطائهم لأن السياسيين والعسكريين الذين تسلموا السلطة بعدهم يدركون تماما أن القضاة سوف يبرأونهم دون أن يخالفوا نص القانون. وفي تونس وقع تقريبا نفس التحيل من الدولة العميقة ذات الأذرع الطويلة و ذات المصالح المريبة حيث أنه في خضم ثورة الشباب وفوضى الإنفلات الأمني تم إلقاء القبض على بعض الرموز القديمة المعروفة لمدة زمن طال أو قصر إلى أن برأهم القضاء وهو مطمئن الضمير عوض المحاكمة التي يستحقونها وهي المحاكمة السياسية التي ربما ليس فيها سجون أو غرامات لكنها تضع الأمور في نصابها وتعطي الضحايا وهم بعشرات الألاف بعضا من حقوقهم المغتصبة بعد أن أستشهد أولادهم أو سجنوا أو شردوا أو عذبوا أو طلقت زوجاتهم منهم أو لوحقوا مثلي بأنتربول لمدة 14 سنة. وهذا الذي حصل في تونس كما حصل في مصر فلا تتعجبوا إذن من إعادة إنتاج الإستبداد بإخراج جديد من خلال تغليف منظومة الفساد والقمع بالسيلوفان (ورق للف و التزويق) بعد تدجين حركة النهضة بتخليها عن ثوابتها وفقدان مراجعها وكثير من قواعدها وصدق د.البشري عند وصف الحالة المصرية (و شبيهتها التونسية) بأنها ربما تكرس عودة الدولة القديمة لأن الذي وقع هو إدانة للرموز وليس للسياسات وأحكام على أشخاص أبعدوا لكن مع استمرار القهر وعودة أشباح الاستعباد والتلويح بالعصا الغليظة.