إعداد ـ يوسف بن حمد الجابري:
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت:(كان رسولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ يصوم حتى نقول: لا يُفطرُ، و يفطرُ حتى نقولَ: لا يصومُ، وما رأيتُ رسولَ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ استكمل صيامَ شهرٍ قطُّ إلا رمضانَ، وما رأيتُه في شهرٍ أكثرَ منه صيامًا في شعبانَ)، وزاد مسلم في روايته:(كان يصومُ شعبانَ كلَّه، كان يصومُ شعبانَ إلا قليلًا)، وفي الترمذي عن أم سلمة:(كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصوم شعبان إلا قليلًا، بل كان يصومه كله)، وعنها قالت:(ما رأيتُ النبيَّ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلم ـ يصومُ شهرينِ متتابعينِ إلَّا شعبانَ ورمضانَ) (رواه الترمذي والنسائي).

وخلاصة القول: إنه (عليه الصلاة والسلام) لم يكن يصوم شعبان كله، لكن يصوم أكثره حتى يظن البعض من كثرة صيامه فيه أنه يصومه كاملًا، وقد ثبت عن عائشة وأم سلمة وابن عباس ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ أنه (صلى الله عليه وسلم) ما صام شهرًا كاملًا إلا رمضان.

وقد فضّل بعض أهل العلم صوم شعبان عن صيام الأشهر الحرم وصيام المحرم، ولكن الظاهر خلافه لضعف ما استدلوا به، ولكن يبقى صيام شعبان كالتوطئة بين يدي رمضان، فهو سفير كريم بين يدي حبيب عظيم، وهو بالنسبة له كصلاة النافلة بين يدي الفريضة، فهو يهيئ المرء ويعده لاستقبال رمضان.

وقد بيّن (عليه الصلاة والسلام) سبب كثرة صيامه فيه حين سأله أسامة بن زيد ـ رضي الله عنه ـ عن ذلك فقال فيما روى الترمذي والنسائي عن أسامة قَال: قُلتُ: يا رسول الله، لمْ أرَكَ تصوم شهْرًا من الشهور ما تصوم مِنْ شعْبان، قال:(ذلك شهْرٌ يغْفُل الناس عنْه بيْن رجب ورمضان، وهو شهْرٌ تُرْفَع فيه الأعْمال إلى ربِّ العالمين، فأحبّ أنْ يرْفعَ عملي وأنا صائمٌ)،
فبين أن سبب ذلك أمران، الأول: أنه شهْرٌ تُرْفَع فيه الأعْمال إلى ربِّ العالمين، فأحبّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنْ يرْفعَ عمله وهو صائمٌ، وهكذا كان حاله في كل وقت يرفع فيه العمل إلى ربه، فيستحب للعبد عند رفع عمله أن يكون على هيئة حسنة، ليكون أرجى لقبول العمل، ومغفرة الزلل، والتجاوز عن الخطأ، والأمر الآخر أنها أعظم أجرًا وقد دل على ذلك أحاديث كثيرة، كذلك أنه أخفى فيكون أبعد عن الرياء، وأقرب للإخلاص، وأدعى للقبول، وأعظم للأجر،
قال (عليه الصلاة والسلام) في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (.. ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) (متفق عليه)، وقد كان السلف يحبون إخفاء العمل.

ومن أسباب كثرة الصيام في شعبان أيضًا قضاء ما قد يكون فات المرء من واجب أو نفل .. فمن كان عليه صيام واجب أفطره في رمضان الفائت قضاه في شعبان، كما كانت عائشةَ ـ رضيَ اللهُ عنها ـ تقول:(كان يكون عليَّ الصومُ من رمضانَ. فما أستطيعُ أن أقضيَه إلا في شعبانَ) (رواه مسلم)، ومن كان له عمل دائم وفاته شيء منه لسبب فليقضه حفاظًا على عمله (فإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل، وكان (صلى الله عليه وسلم) إذا عمل عملًا أثبته) (صحيح أبي داود)، كما كان (صلى الله عليه وسلم) إذا فاته شيء من عمله قضاه.

كما لا ننسى أن هناك أمرًا هامًا آخر وهو إعداد النفس وتهيئتها لاستقبال شهر رمضان المبارك، كما ذكر ذلك ابن رجب في (لطائف المعارف)، فكان (عليه الصلاة والسلام) يعلمنا ويأمرنا بإكثار العبادات في شعبان حتى إذا جاء رمضان كان الإنسان قد تهيأ تمامًا لعمارته بأحسن ما يمكن من العبادات بجميع أنواعها وأشكالها، فإن في ذلك تطهيرًا لأنفسنا من الذنوب والمعاصي، وتنقية لبيوتنا من المخالفات والمنكرات، فإن نفوسنا كمثل الثياب ورمضان عطر ولا يعطر الثوب حتى يغسل، ولذا قيل: رجب شهر الغرس، وشعبان شهر السقي، ورمضان شهر الحصاد.


* كاتب عماني