محمود عدلي الشريف:
إخواني وأخواتي الكرام: لقد طاف بنا الحديث في اللقاءين الماضيين عن حاجة البشرية إلى التدين وبناء البيت الحرام عبر التاريخ، وها نحن نقف عند الخيرية في حصول الأمة الإسلامية ليكون هذا البيت العتيق قبلة لها وحدها، وقد توجه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في البداية إلى المسجد الأقصى، حتى يلقي الحجة على أهل الكتاب باتباعه لقبلتهم ـ على الرغم من الحجج القاطعة الدالة على صدقه في كتبهم التي بين أيديهم ـ فكأنه (صلى الله عليه وسلم) بهذا الفعل بخبرهم قائلا قد اتبعنا قبلتكم وأنتم على الباطل ونحن على الحق، فلم لا تتبعون قبلتنا ونحن على الحق؟ فقد جعل الله المسجد الأقصى قبلة لهم، لأنه قريب منهم وهم قريبون منه وقد عاش أنبيائهم حوله، وكانت رسلهم تتوالى رسول تلو الآخر، ولكن لما كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هو آخر الأنبياء والرسل، وعلى يديه تختم رسالات الله، فلما كان ذلك كذلك كان لابد أن ترجع القبلة إلى أصلها، فالبيت الحرام هو أول بيت وضع للناس (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ) (آل عمران ـ 96)، وقد ثبت في التوراة والإنجيل والقرآن أن آدم ـ أبو البشرـ قد توجه إلى البيت الحرام وأنبياء الله من بعده حتى جاء خليل الله إبراهيم، وهو (عليه السلام) أبو الأنبياء جميعًا، من هنا كان البيت الحرام هو أصل القبلة ولهذا جعل الله الخيرية لأمة محمد (صلى الله عليه وسلم) بأن اختار القبلة الأم ، وهي أصل القبلة والتوجه ، ولأنهم خاتم الأمم فقد رجعت إليهم كما بدأت، ومن أجمل ما قرأت حول هذا الأمر ما كتبه الشيخ محمد أبو زهرة ـ رحمه الله ـ في كتابه الجميل (خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم "2/ 538") حيث يقول: (عند ما فرضت الصلاة بعد الإسراء والمعراج على أنها خمس صلوات، وإن كان لها ثواب خمسين صلاة، إن أقيمت على وجهها، كانت قبلة المسلمين إلى الشام إلى بيت المقدس، ولكن تتوسط الكعبة الشريفة، فيكون الاتجاه إلى الكعبة الشريفة على ناحية بيت المقدس، فكان المصلى يجمع في صلاته بين القبلتين بأمر ربه، ولما هاجر إلى المدينة المنورة لم يكن الجمع ممكنا، بل لا بد من استدبار إحدى القبلتين، وقد ترك النبي (صلى الله عليه وسلم) مكة المكرمة، والكعبة الشريفة تحيط بها الأوثان، ولم يكن ثمة ما يؤذن من الأمور بزوالها، فكان استقبالها لا يخلو من استقبال الأوثان المحيطة بها، والنبي (صلى الله عليه وسلم) كان حريصا على أن تكون الكعبة الشريفة هي القبلة، وحريصا على أن تزول الأصنام عنها وقد أمره الله سبحانه وتعالى بأن تكون القبلة إلى بيت المقدس مؤقتًا، لأن الله سبحانه وتعالى لم يؤذن بأن تخرج الكعبة الشريفة عما هي عليه، ولعل النبي (صلى الله عليه وسلم) علم بأمر ربه رأى أن استقبال بيت المقدس، واستدبار الكعبة الشريفة أمر مؤقت وأن النهاية إلى الكعبة الشريفة، وأن الاتجاه إليها إيذان بذهاب دولة الأوثان، وطهارة البيت الحرام، ولذلك كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يضرع إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يقرب الوقت الموعود بالعودة إلى الكعبة الشريفة، لأن العودة إلى الكعبة الشريفة عودة إلى كعبة إبراهيم أبى الأنبياء، ولأن الاتجاه إليها إيذان بنصر الله سبحانه وتعالى، وإيذان بإزالة الأوثان بعد زمن طال أو قصر، وإن كان في عمر السنين والحساب ليس كثيرًا، وفي هذا الوقت كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يضرع إلى الله سبحانه وتعالى أن يقرب البعيد، وكان اليهود يتوهمون أن جعل القبلة إلى بيت المقدس معناه أن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) لا يكون خارجًا عن أنبياء بنى إسرائيل، وهو وهم باطل سكن في نفوسهم التي تتخيل ثم تخال ثم تعتقد، كشأن أصحاب الديانات الذين لا يؤمنون بالديانة إلا على أن تكون أماني لهم أو تتفق مع أمانيهم، قبيل بدر كان الإيذان بزوال دولة الأوثان التي كان يومها يوم الفرقان، قد أذن الله سبحانه وتعالى بتحويل القبلة إلى الكعبة الشريفة، أو بالأحرى إعادة القبلة إلى الكعبة الشريفة، إذ نزل قول الله سبحانه وتعالى:(سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (البقرة: 144،143،142)، كان تحويل القبلة إلى الكعبة الشريفة، بهذا النص وهو يدل على أمرين: أحدهما: أن أهل الكتاب هم الذين كانوا يقولون: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، وأنهم كانوا فرحين، إذ أن المؤمنين كانوا يتبعون قبلة بيت المقدس، وثانيهما: أن نص الآية يشير إلى أن جعل القبلة إلى بيت المقدس كان حكما مؤقتا يزول بزوال سببه، ولذلك لا نعتقد أنه نسخ، ولكنه انتهاء حكم مؤقت بانتهاء وقته المعلوم، وقد بين الله سبحانه وتعالى ذلك، بقي أن تعرف الميقات الذى كان فيه التحويل! لقد رويت في هذا روايات ظاهرها الاختلاف، ولكن الاتفاق على أنها كانت بعد جمادى الآخرة، والاختلاف أكان ذلك التحويل في رجب أم كان في شعبان فروى عن قتادة وزيد بن أسلم وعبدالله بن عباس أن ذلك كان في رجب، وروى أنه كان في شعبان، وكلام ابن إسحاق يومئ إلى ذلك، إذ يقول إنها كانت بعد سرية عبد الله بن جحش، وما كانت في آخر رجب ويقول في هذا المقام: قال ابن إسحاق كانت بعد غزوة عبد الله بن جحش، ويقال صرفت القبلة في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدم رسول الله، (صلى الله عليه وسلم). وحكى هذا القول ابن جرير عن ابن عباس، وناس من الصحابة.. قال الجمهور الأعظم:(إنما حولت في النصف من شعبان، على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة .. وعن محمد بن سعد الواقدي أنها حولت يوم الثلاثاء في النصف من شعبان، ومهما يكن فقد ذكر الحافظ ابن كثير، أنه يميل إلى هذه الرواية التي تقول إنها في النصف من شعبان وذلك لأنه رأى الجمهور الأعظم، كما يقرر ابن كثير، وما كان الجمهور ليتجه إلى رواية إلا إذا ثبتت لديه صحتها، ورأينا دائما أن ما يتلقاه الناس وفيهم العلماء بالقبول لا يرد إلا إذا ثبت بدليل قاطع أو راجح بطلانه، وإننا قد رأينا أن نصف شعبان يحتفل به المسلمون على أساس أنه يوم مبارك، والاحتفال به يتفق مع كونه اليوم الذى تحولت فيه القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة الشريفة، وكلاهما مقدس، إذ هو فرحة النبي (صلى الله عليه وسلم)، وعلى أننا نلاحظ أن ابن كثير قدر المدة بين الهجرة، أو مقدم النبي (صلى الله عليه وسلم) بثمانية عشر شهرًا، وإنه باستقراء عدد الأشهر من وقت مقدم النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى منتصف شعبان لا يكون قد مضى ثمانية عشر شهرًا، ذلك أن الهجرة كانت في ليلة الثاني عشر من ربيع الأوّل، فإذا احتسبنا ربيع الثاني وجمادى الأولى والآخرة، ورجبا يكون سبعة عشر شهرا وأيامًا) ...اه. وإن التاريخ ليس محلا للخلاف، أليس البيت الحرام هو أول بيت وأشرف بيت وضع للناس وقد جعل قبلة أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) وهي خيرية لهم، أثبت العلم الحديث أن الكعبة المشرفة هي محور الأرض ووسطها بالضبط، وهذا في حد ذاته ميزة ونعمة وخيرية ليس يعلوها فضل أو تميز، أليس البيت الحرام يعلوه البيت المعمور في السماء السابعة وهو فوقه بالتمام، وهذا يوحى بالصلة الوثيقة لهذا الدين وبركة العبادة، أليس البيت الحرام هو المثابة للناس لا يملوا منه ولا يشبعوا من زياراته مهما تكررت وهي خيرية لهذا البيت ولمن يجعلوه لهم قبلة، أليس البيت الحرام مكان مقدس يحفظ من يدخله ولا يقرب بأذى:(فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران ـ 97)، والحقيقة التي تفرض نفسها ـ إخواني الكرام ـ والتي أثبتها التاريخ أن اختيار المسجد الحرام قبلة لأمة محمد (صلى الله عليه وسلم) لهي خيرية عظيمة نشكر الله ونحمده عليها.

[email protected]*