د.جمال عبد العزيز أحمد:
عندما يقترب الشهر الفضيل، تهَشُّ النفوس المؤمنة، وتستبشر القلوبُ الطاهرة بهذا الشهر الذي يُعَدُّ تاج الشهور، وزينة الزهور، شهر يأتي مرة واحدة في العام، ويترك أثره، وبصمته على الشهور الأخرى، ويظل تأثيره حتى يعودَ من جديد، فهو أستاذ الشهور، ومنه نتعلم جميع أخلاق الدين، ومقاصده، فهو شهر الصبر، والوحدة والتعاون، والبر، وصلة الرحم، وشهر الصدقات، والتكافل، وشهر التقوى، والمراقبة، والإحسان، وشهر الرحمة، والمغفرة، والعتق من النيران، وشهر التلاوة، والقرب من الله، وكتابه الكريم، وشهر القيام، والتهجد، وشهر الدعاء، والتبتل، وشهر الإحسان، والكرم، والجود، وشهر الجهاد، والاجتهاد: جهاد النفس، والشيطان، والهوى، والأعداء، وشهر البكاء بين يدي الله، وشهر يقظة الضمير، وسمو الروح، ومحاسبة النفس على ما فات ، وشهر الاحتساب، والعفو، والصفح.

ويتساءل كثير من الناس: كيف أستغل شهر رمضان المبارك؟ .. فيقولون: أريد ألا يضيع مني فيه لحظة، ولا دقيقة، ولا ساعة، وأخرج منه راضيًا عن نفسي لطاعة ربي، وحسن استثمار أوقاتي فيه، وساعاتي، وأيامي، وللجواب عن ذلك أستعين الله، وأقول:(إن أفضل الطاعات حفظ الأوقات، وأن أكثر ما يتقرب العبد به إلى ربه هو جلال استثمار العمر، واستغلال الحياة في طاعة مولاه - جل في علاه، وعز في أرضه وسماه - وأن أكرم ما يكون العبد المؤمن عندما يبكي بين يدي ربه، ويتودد إليه بالطاعة، والذكر، والدعاء، والخضوع، والخشوع المصاحب للدموع)، ولعل الطريق إلى ذلك يكون بتتبع ما يأتي، وتنفيذه على قدر المستطاع:
الأول: النية، وعقدها قبل رمضان، وكذا كل يوم فيه، وخصوصا قبل أن يؤذَّن للفجر كل يوم، ينوي أن يصوم لله، ويبتغي بصيامه رضا مولاه، وألا ينسى في نية الصيام أن يبيِّتها يوميًّا، واضعًا رضا الله بين عينيه، لا تغيب بين ناظريه، وكل طاعة يسبقها بالدعاء لله: أن يقبلها منه، وأن يجعلها لوجهه الكريم، وابتغاء مرضاته، والثاني: أن يكون له وِرْدٌ يوميٌّ من التلاوة، والنظر بحب في كتاب الله، وأقل ما يقرؤه المسلم الصائم المحب لله وكتابه ورسوله جزٌءًا كاملًا، وأكثره عشرة أجزاء، لأن قراءة عشرة أجزاء تعني أن ينتهي من ختمه كلَّ ثلاثة أيام، وينتهي الشهر بتلاوة القرآن الكريم عشر مرات، وأنه لا يفقه من قرأه في كل من ثلاث (ليال)، مع أن الإمام الشافعي - رحمه الله - ورد عنه أنه كان يقرأه يوميًّا مرتين، بمعنى أنه كان يختم ستين مرة في رمضان، وقد حاولت مرة فختمته في يوم ولكنْ، تعبتْ تعبًا شديدًا، بحيث جلستُ طوال اليوم في المسجد الحرام، ولم أخرجْ إلا للإفطار فقط، والثالث: أن يكون له مع الله لقاءٌ يومي في الصلوات، بحيث يحرص على صلاة القيام (التروايح) في المسجد (إنْ سُمِحَ له في ضوء الاحترازات الصحية الموضوعة والمقررة في كل بلد، احترازًا من مرض كورونا)، ويصلي مع الناس بالطريقة الموضوعة هذه الأيام، ومع الإمام يصلي التراويح حتى صلاة الوتر، وحضور الدعاء إنْ أمكنه ذلك، وكان لدجيه متسع من الوقت، ولا شيء وراءه يجب فعله، والرابع: أن يحرص على صلاة التهجد التي تبدأ غالبًا في الواحدة ليلا يوميًّا من أول يوم في رمضان (إذا سُمِحَ بذلك في كل بلد وفق قراراتها وقوانينها التي يجب اتباعها والمصير إليها) ، وصلاة التهجد إما أن تكون في المسجد، وإما أن تكون في البيت بحيث لا يَحْرِمُ المرءُ نفسَه من صلاة ركعات يمكن أن تصل إلى عشر ركعات (فصلاة الليل مثنى مثنى) - كما في الحديث الشريف ـ أي: ركعتين ركعتين، وإن لم يكن قد صلى الوتر بعد العشاء فيمكنه أن يُوتِرَ بعد التهجد، وقبل الفجر، والخامس: أن يحرص كلَّ الحرص على صلاة الجماعة في مسجد قريبٍ من داره، وليس بعيدًا (ان سمحت الظروف في الوقت الحالي)، وعليه أن يتيقن أن الفرض في رمضان بسبعين فرضًا في غيره، وأن صلاةَ السُّنَّة في رمضان تعدل فريضةً كاملة، وتصور مثلا أنك في البيت الحرام (في مكة المكرمة)، والفرض في مكة طوال العام في بيت الله الحرام بمائة ألف صلاة، وفي رمضان يعدل سبعين، فإذا ضربتَه في سبعين، فسيكون ثواب الفرض الواحد في البيت الحرام في رمضان بسبعة ملايين صلاة، أي أن الفروض الخمسة اليومية فقط في رمضان (في البيت الحرام) بخمسة وثلاثين مليون صلاة، والحسنة بعشر أمثالها، فاجلس، وتخيل مدى الثواب المرصود في رمضان، (وهذا ثواب الصلوات الخمس فقط في المسجد الحرام يوميًّا خمسة وثلاثين مليون صلاة)، والسادس: الحرص على السُّنن الرواتب، والنوافل المستحبة قبل الظهر وبعده، وقبل العصر، وقبل المغرب وبعده، وقبل العشاء وبعده، بخلاف صلاة القيام (التروايح)، وصلاة التهجد قبل الفجر، فيصلي، ويكثر من السجود، وفي الحديث الشريف:(أعِنِّي عليك بكثرة السجود)، ويقول الله تعالى:(واسجد واقترب)، فالسجود طريق إلى القرب من الله، وهو سبيل من سبل حبِّ الله للعبد، وتكرمِّه عليه بقربه منه، والسابع: الصدقات، بحيث يُخرِج شيئًا يسيرًا بحسب وضعه المالي، على أن يبدأ بأقل القليل، وينوي إخراجه لله بإعطائه لأيِّ فقير يقابله، أو في صندوق المسجد، وأهل المسجد هم أدرى الناس بفقراء حيهم، ويعرفونهم، ويعرفون كيف يوزِّعونه،.فإخراج الصدقة في رمضان له ثوابه الكبير، وأجره العظيم فلا تحرم نفسك منه يومًا بيوم، أو أسبوعًا بأسبوع، ويمكنك التصدق عن نفسك، وعن أولادك القصر تعودهم على ذلك، والثامن: الدعاء، بمعنى أن يكون لك قسطٌ من الدعاء، إما عقب كل صلاة، وإما في وقت تحدده، وتخلو فيه بنفسك، وتدعو الله باكيًا خاشعًا لله، فتدعو لنفسك، ولوالديك، ولأولادك ، ولزوجتك، ولأحبابك، ولأهلك، ولجميع زملائك، تتخيل هؤلاء وهؤلاء، وتمرر شريطَ عقلك، على كل من تحب منهم، وتقدِّر، وترجو لهم جميعا تحقيق كلِّ مأمول، وإجابة كلِّ ما يحتاجون إليه، وتدعو الله لهم بظهر الغيب، والملك يؤمِّن على دعائك، ويقول: ولك بمثله، كما ورد ذلك في الحديث النبوي الشريف، والتاسع: وِرْدُ الذِّكْر: أن يكون لك مع الله يوميًّا وردٌ تذكُره، وتسبحه، وتحمده، وتكبِّره، وتعظمه، وتستغفره، وتصلي وتسلم على نبيه ومصطفاه (صلى الله عليه وسلم) وذكر الله خيرٌ من كل عئل، وذلك بأن يكون لك سُبْحَة (مائة حبة)، تسبِّح الله عليها، وتقول:(سبحان الله) مائة مرة، و(الحمد لله) مائة مرة، و(لا إله إلا الله) مائة مرة، و(الله أكبر) مائة مرة، و(لا حول ولا قوة إلا بالله) مائة مرة، و(سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) مائة مرة، و(أستغفر الله العظيم مائة مرة)، وتقرأ:(قل هو الله أحد ... سورةالإخلاص) مائة مرة، وتقول:(صلى الله على محمد صلى الله عليه وسلم) مائة مرة، و(لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) مائة مرة، ولا تتكاسل يوميًّا عن ورد الذكر، فإن استطعتَ فعله صباحًا ومساء، فأنت مغبون، وميسر لك، ومقبول بإذن الله سبحانه وتعالى، والعاشر: وِرْدُ التفسير: بمعنى أن يكون لك وقت يومي لقراءة تفسير السور القصار كجزء عَمَّ، بأن تكون لك ساعة تحددها أنت، تقرأ فيها تفسيرًا ميسَّرا للسورة، وتتفكر في معاني الكلمات، وظل دلالات العبارات، وما يطلب إليك منها، وتفسير الصابوني - رحمه الله - (صفوة التفاسير) سهلٌ ميسر بين يديك (على الشبكة الدولية للمعلومات الإنترنت)، أو المنتخب في تفسير القرآن الكريم الذي أصدره المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالأزهر الشريف، أو أيّ تفسير ميسر سهل، أو تفسير كلمات وألفاظ القرآن لتتابع المعنى وتفهم المقصود، وعندك كتاب الشيخ محمد حسنين مخلوف (كلمات القرآن: تفسير وبيان)، وهو من كبار علماء الأزهر الشريف، والفقيه الأشهر في مانه، ووقف نَفْسَهُ على خدمة الكتاب الكريم، أو تفسير:(أيسر التفاسير) للشيخ أبي بكر الجزائري - رحمه الله - أو أن تسمع جزءًا من تفسير الشيخ الشعراوي - رحمه الله- لقصار السور، أو نحو ذلك مما يمكنك فعله، والله يوفقك إلى ذلك، وتفهم معنى:(شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن)، والحادي عشر: يمكنك سماعُ بعض الشرائط التي تدفعك، وتحمِّسك إلى الطاعة، واستمرارالعبادة، وحسن استغلال الوقت، أو قراءة كتاب عن قيمة الوقت، وأثره في الحياة، وكيفية استثماره، وهناك كتاب سهلٌ، قرأناه كثيرًا، وهو (الوقت في حياة المسلم) للدكتور يوسف القرضاوي، أو كتاب:(قيمة الزمن عند العلماء) للشيخ المرحوم عبد الفتاح أبوغدة، ونحوها من الكتب المفيدة، والنافعة لك في ذلك، والثاني عشر: يمكن لكلِّ فتاة، أو امرأة مسلمة - وهي في مطبخها - أن تسمع القرآن يُتْلَى من أيِّ قارئ، بدل أن تضيِّع وقتها في الصمت، وهي تطبخ، أو في الغناء، أو تسمع بعض شرائط في العظة، أو في حسن استغلال رمضان، أو شرائط في تزكية النفس، أو في قيام الليل والاجتهاد في الطاعة، وفي حب الله وطاعته، أو في التجويد وتعلم أحكام التلاوة،وألا تضيع وقتها طوال النهار في مطبخها كما نعرف جميعًا، والثالث عشر: محاسبة النفس يوميًّا على ما قام به كلُّ واحد منا، والنظر فيما أحسن وفيما قصَّر، والاستغناء عما ضيع من وقت، والعزم والاجتهاد في تدارك ما راح منه، وتكثيف الجهود لاستغلال كلِّ يوم، والوقوف وقفة جادة مع النفس، فكل يوم يمضي هو شاهد لك، أو عليك، والذي يمضي لا يعود إلى يوم القيامة، وسيخرج رمضان شاهدا لك أو عليك، فهو سوق يقوم، ثم ينفض، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر، ربَّح الله فيه جميعَ المسلمين، وبلَّغهم آمالهم، وحَطَّ عنهم جميعَ ذنوبهم.

نسأل الله - تعالى- أن يُسَلِّمنا إلى رمضانَ، ويسلِّم لنا رمضانَ ، ويتسلَّمه منا متقبَّلا، وهو راض عنا، وأن يضاعف فيه أجرنا، وثوابنا، ويكتب لنا القبول، وتمام الرضا، وكمال التوفيق ، وأن يرزقنا الدخولَ من باب الرَّيَّان، والسُّقيا من يد النبي العدنان - عليه أزكى الصلاة، وأتم السلام - ، وأن نَخرج منه مجبوري الخاطر، وقد تقبَّل الله أعمالنا، وضاعف ثوابنا، ورَضِيَ عنا جميعًا، وأرضانا والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وكل عام وأنتم جميعًا بخير، تقبل الله منا ومنكم، بلغكم الشهر، وأنتم في أتم صحة، وأكمل عافية.



* كلية درار العلوم - جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية.

[email protected]