د.جمال عبد العزيز أحمد :
في هذه السلسلة المباركة نتكلم عن خصائص لغة القرآن الكريم، وأسرارها، وستكون لقاءاتنا متباينة مع تلك الخصائص خلال شهر رمضان المبارك، تحقيقًا ومعايشة لقول الله تعالى:(شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس)، فنعيش مع لغة الكتاب الكريم، ونستجلي بعض خصائصها، وشيئًا من سماتها، ونرتشف رحيقًا من رحيق أسرارها، ونقف ما تمتاز به من ميزات كثيرة، لنقف على مفهوم قوله الكريم:(بلسانٍ عربيٍّ)، وقوله سبحانه:(قرآنًا عربيًا غير ذي عوج)، ونستكشف جلال قوله - جلَّ شأنه:(كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته)، وفي كل مرة نأتي بخصيصة، وسر، وسمة من سمات لغتنا الجميلة التي ارتضاها الله لتكونَ مَصَبًّا لأحكام دينه، وناقلة لكلِّ مطلوب السماء إلى أهل الأرض، فمن تلك السمات أن الحركة لها معنى، واختيار حرف المبنى له دلالة، واختيار حرف المعنى له مفهوم، واختيار البِنية أو اللفظة له دلالة، واعتبار، واختيار الجملة له معنى، ومقصود، واختيار أحرف الكلمة، وترتيبها له دلالته، كما أن مغايرة القاعدة النحوية له دلالته، والسكت نفسه له دلالته، ومواصلة التلاوة بالتزام أحكام ورموز الوقف في القرآن الكريم له دلالته، وهو مرتبط بالمعنى ارتباطًا وثيقًا، وكذا النبر والتنغيم له دلالاته، وإيحاءاته، ومعانيه، كل ذلك سنعرض له في وقفاتنا اليومية مع الكتاب الكريم، ولغته الراقية، وتراكيبها السامية، يحدونا الأمل في رضا الله، واستنزال هداه، وعفوه ورحماه.
ونتناول اليوم إحدى تلك الخصائص، وهي اختلاف دلالة الحرف الأول من الكلمة: فتحًا وكسرًا (فقط ، دون تغيير هيئة الحرف)، وإنما نجد أنه إذا تغيرت حركة أوله: فتحًا وكسرًا تبعها تغيرٌ في معناه، وتباينٌ في دلالته؛ مما يَشِي بجمال، وجلال، وكمال هذه اللغة الحكيمة، حيث يختلف اللفظ في دلالته إنْ كان أوله مفتوحًا عن دلالته - هو نفسه - إن كان مكسورًا، فتتحول تلك الدلالة، ويختلف ذلك المعنى، وتلك من خصائص اللغة الشريفة، ويحتاج منا إلى أعمار، لنقف من خلاله على عمق هذه اللغة، واتساعها، وجلالها؛ حيث لم يتغير منها حرف، بل تغيرت حركة، أو ضبط لحرف فتحًا، فتتغير معانيه، وتفترق عنه كسرًا، وهاك أمثلة لذاك: العِوج (بكسر العين وفتح الواو) يكون في المعاني والأعيان، ما لم يكن منتصبًا، والعَوَج (بفتح العين والواو) فيما كان منتصبًا، كالرمح والحائط، فيقال:(في العُودِ عَوَج، وفي الرأي عِوَج)، فالفتح للعين يكون في المعاني، والمعنويات، والكسر في العين يكون في المباني، والماديات، والحَجَّة (بفتح الحاء) هي المرة من الحَجِّ، وهي شحْمة الأذن، وخَرَزَةٌ أو لؤلؤة تُعلَّق في الأذن، أما الحِجَّة (بكسر الحاء) فهي الاسم من الحَجِّ، والمرة من الحج على غير قياس، وحِجَّةُ الوداع آخرُ حجة للرسول - صلى الله عليه وسلم ـ للبيت الحرام، وهي السَّنَة، وجمعها حِجَج، واسم هيئة من الفعل الماضي حَجَّ، فحَجَّة اسم مرة، وحِجَّة اسم هيئة، أما نطقهم حِجَّة - على أنا برهان ودليل على شيء يقدمونه - فخطأ في النطق، والصواب حُجَّة بضم الحاء، والنَّعْمة (بفتح النون المشددة) هي الرفاهية، وطيب العيش، يقال:(وفي نَعمة عيشٍ، أي: في حسنه، ونضارته)، والنِّعمة (بكسر النون المشددة) هي ما أُنْعِمَ به على الإنسان من رزق ومال وغيره، والحال الحسنة والصنيعة، يقال:(لك عندي نِعمة لا تنكَر): أي منَّة وفضل، والحِبُّ (بكسر الحاء) هو المُحِبُّ، والمحبوب، وجمعه أحباب، وحِبَّان وحِبَبَة، أما الحَبُّ (بفتح الحاء) فما يكون في السنبل، والأكمام، كالقمح والشعير، وما يشبه الحَبَّ في شكله كحبات العِقد، وحَبِّ الغَمام، وحَبِّ المُزْن، وحب قُرٍّ، وهو البَرَد، أو الثلج المجروش، أو حباته المتساقطة من السماء، واحدته حَبة، وجمعه حُبُوب، فالحركة بينت الاختلاف بين الدلالتين، والبِر(بكسر الباء) هو جماع الخير، أو اسم جامع لكل أفعال الخير، والنفع، وهو الفؤاد، وأما الَبَرُّ(بفتح الباء) فهو ما انبسط من سطح الأرض، ولم يغطِّهِ الماءُ، وجمعه البُرُور، وهو كذلك اسم من أسماء الله الحسنى.
.. ونواصل بيان خصائص اللغة في جانب آخر من جوانبها في اللقاء القادم.