د.أحمد بن علي المعشني:
كان سلوكه لافتًا، تحلق الناس لتناول التمر والماء عند سماعهم أذان صلاة المغرب في الحرم المكي الشريف.
كان ذلك اليوم هو الواحد والعشرين من شهر رمضان 1995، الموافق لغرة العشر الأواخر.
جاء مسلم بمعية مجموعة من أقاربه للعمرة وشهود العشر الأواخر وتحري ليلة القدر في الثلث الأخير من هذا الموسم الفضيل.
كان من حوله مشغولين بتناول التمرات وشرب الماء والدعاء، وكان هو متوتر.
أكمل صومه مثلهم، وقرأ القرآن وصلى الصلوات في الحرم مثلهم ونظر إلى الكعبة مثلهم، لكنه كان مشغولًا جدًّا، وكان عصبيًا ومتوترًا.
انتهى من إفطاره وخرج من صحن الحرم إلى خارج المسجد، بينما بقي رفاقه معتكفين منتظرين أذان صلاة العشاء، حفاظًا على أماكنهم التي تطل على الكعبة مباشرة، لكن مسلم لم يستطع المكوث معهم، خرج من الصحن وغادر المسجد، ليجد متنفسًا في الأسواق التي تحيط الحرم، حيث الصخب والأصوات.
ذهب إلى مكان خبأ فيه علبة سجاير وبأصابع مرتبكة وبنهم ملحوظ أشعل سيجارة ووضعها في فمه وجعل يسحب رحيقها بقوة، بينما تدمع عيناه، شوقًا ولهفة وانكسارًا أمام تلك العادة التي ملكت عليه عقله وقلبه طيلة ربع قرن.
دخن بشراهة ملحوظة، بعد ذلك أشعل سيجارة أخرى، ثم أفاق من ذلك وبدأ يتمشى في الأسواق، حتى إذا سمع أذان صلاة العشاء صلى مع الجموع الغفيرة خارج المسجد، ثم أعاد الكرّة وعندما حان وقت صلاة القيام الأخير وقف مع جموع المصلين بخشوع في مكان أبعد من المكان الذي صلى فيه العشاء والقيام الأول.
أكمل ليلته على هذا المنوال وفي الصباح ذهب إلى الشقة التي يسكنها هو وأصحابه، لم يكونوا قد عادوا من المسجد، أخذ مكانه للراحة والنوم وبعد مضي ساعة تقريبًا رجع أصحابه، ولم يعلقوا ولم يسألوه أين كان؟ لأنهم يحترمون مشاعره، فهو أكبرهم سنًّا، ويقدرونه ويحفظون له قدره واحترامه، لكنه في أعماقه يشعر بالضآلة والندامة، فهو عابد مخلص وصادق مع الله، لكن عادة التدخين تستنزف إرادته وتجعله ضعيفًا جدًّا أمام هذه العادة التي لا تدخل معه إلى الأماكن النظيفة، ولا يمكنه أن يحملها معه إلى الأماكن المقدسة، وتذكر أنه عندما كان يدخل إلى أي مسجد لصلاة الفروض يضعها تحت حذائه، ليتخلص منها ويناجي الله بدونها.
بدأ يطرح على نفسه مجموعة من الأسئلة، ويقارن بين عصبيته المفرطة وبين هدوء وسكينة رفاقه، الذين يقرأون القرآن ويتهجدون ويعتكفون كثيرًا، ولا يقطعون اعتكافهم إلا لتجديد الوضوء، بينما يقضي هو النهار نائمًا، وفي الليل يترك ذلك المكان الطاهر ليقضي كثيرًا من وقته مع السيجارة.
استيقظ رفاقه لصلاة الظهر، واستيقظ معهم، فذهبوا معا إلى الحرم، ورجعوا بعد الصلاة لأخذ قسط من الراحة استعدادًا لإحياء العبادة في الليل، ومر اليوم الثاني كشأن اليوم الأول، وكذلك اليوم الثالث والرابع، وبدأ مسلم يفكر بليلة السابع والعشرين التي قطع من أجلها هذه المسافة الشاسعة من صلالة إلى مكة، هل سيقضيها في الأسواق مع السيجارة والخروج من صحن الحرم أم سيترك معشوقته السيجارة ويناجي الله نظيف الفم، والثياب وطيب الرائحة؟.
قرر مسلم أن يتخذ قرارًا صعبًا واستعان بالله لتقوية عزيمته على الإقلاع عن التدخين، وهذا ما فعله، لم يكن القرار سهلًا لشخص عاش مدخنًا لمدة ربع قرن أن يلغي سيجارته من عقله ومن جوفه ورئتيه، لكنه لا بد أن يختار بين الغاية التي جاء من أجلها وصرف من أجلها الجهد والمال والوقت.
لكنه اتخذ القرار الذي لا رجعة فيه، مستعينًا بالله، واستحضر في عقله صورته وهو يضعها تحت حذائه ويدخل المساجد، وتخيل رائحتها وفكر في أضرارها وهي تخرجه من مقام العبادة والدعاء إلى مقام الابتعاد عن الأماكن الطاهرة لكي يمتص رحيقها السام، ورسم صورة لنفسه عائدا من هذه الرحلة المقدسة متحررًا من تلك العادة الذميمة، لن يحتاج بعد اليوم أن يطأطئ رأسه ليلتقطها من تحت حذائه.
* مؤسس العلاج بالاستنارة (الطاقة الروحية والنفسية)
ـ رئيس مكتب النجاح للتنمية البشرية