ناصر بن سالم اليحمدي:
هلَّت نسمات الخير وبشائر الرحمة والمغفرة والعتق من النار بحلول الأيام المباركات لشهر رمضان؛ هذا الضيف المبارك الفضيل العزيز الذي جمع الله فيه جوامع الخير، وتواصلت فيه السماء بالأرض ليتنزل فيه أفضل منهج رباني ديني ودنيوي، ألا وهو كتاب الله المحفوظ الذي إذا ما التزم المسلم بما أتى به من أحكام نال سعادة الدنيا وجنان الآخرة.
إن شهر رمضان المعظم منة من الله، وفرصة ذهبية للمسلم؛ كي يضاعف حسناته ويرفع درجاته ولو بأقل الأعمال، فهو موسم الخيرات ـ كما يطلق عليه ـ ونهر العطاء والجود والكرم.. ففي هذا الشهر العظيم يستطيع المسلم الإحساس بألم الفقير وحرمانه وجوعه.. لذا فإنه يرسم صورة متكاملة للتكافل عن طريق أخذ الغني بيد الفقير.. وكما يطهر قلب الصائم من الحسد فإنه يطهر أمواله بالزكاة.
لا شك أن شهر رمضان فوائده عظيمة وروحانياته التي يستخلصها الصائم كثيرة، ويكفي أنه يمنحنا الفرصة لتراحم وتقارب الأهل والأصدقاء.. كما أنه فرصة للتصدي لآفة الاستهلاك الشرهة عن طريق بث قيمة وثقافة الترشيد في نفوسنا؛ لأنه دائما يذكرنا بقوله تعالى "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا".. والاستهلاك هنا ليس غذائيا فقط، بل استهلاك جميع مناشط الإنسان في حياته اليومية.. فالإسراف في كل شيء ممقوت حتى مع السعة.
كما أن شهر رمضان يزرع فينا ضبط النفس وحسن التعامل مع الآخرين، وإتقان العمل والأمانة والإخلاص، وعدم تضييع الوقت فيما لا يعود علينا بالنفع، إلى جانب أنه يعلمنا الصبر وجهاد النفس الذي هو أقسى أنواع الجهاد، والخوف من الله سبحانه وتعالى، والالتزام بأوامره والانتهاء عما نهى عنه حتى ولو كان على حساب أنفسنا.. والإحسان والتقرب إليه جلَّ شأنه بالأعمال الصالحة والإكثار من الخير والعطاء غير المحدود.. مع الرضا بالقليل والتواضع.. والحرص على تجديد أواصر الألفة والوحدة وصلة الرحم، وغير ذلك من فعل الخيرات التي يحرص عليها المسلمون في الشهر المبارك والتي هي بمثابة الوقود الذي يعطيهم قوة روحية وإمدادا ربانيا يسيرون على هديه طوال العام حتى يهل رمضان التالي.
أما المنافع الجسدية فهي كثيرة وتضمها أبحاث الغرب العلمية الحديثة التي أثبتوا من خلالها أن صيام شهر رمضان يخلص الجسم من السموم التي اكتسبها على مدار العام؛ لدرجة أنهم أصبحوا يصفون الصيام للكثير من المرضى؛ لأنه يساعدهم على الشفاء.
بالطبع رمضان هذا العام لن يختلف كثيرا عن رمضان الماضي بما تفرضه تداعيات جائحة كورونا من مستجدات على حياتنا الشخصية والتي أصبحت مظاهرها جزءا من سلوكياتنا اليومية وثقافتنا كاتباع الإجراءات الاحترازية بالتباعد، والتطهير وارتداء الكمامة، وغير ذلك من الاحترازات التي أصبحت معلومة للجميع والتي بدورها اضطرتنا لإلغاء بعض الطقوس الاجتماعية التي كنا نمارسها قديما قبل ظهور الفيروس.. فالظروف الاستثنائية التي نعيشها فرضت العزلة وإلغاء التجمعات العائلية حول موائد الإفطار، وفي السهرات الرمضانية التي كانت تضم الأهل والأصدقاء، وأجبرتنا على البقاء في المنزل حتى لا تنتشر العدوى ويتفشى الوباء أكثر وأكثر.. بل ويمكن القول إن الالتزام بهذه العزلة وبتعليمات وزارة الصحة هو في حدِّ ذاته عبادة؛ لأنه يتوافق مع مبادئ الشرع بالحفاظ على النفس، كما أنه واجب وطني للحدِّ من انتشار الفيروس.. قد يقول البعض إن لقاءات المحبة مع الأهل والأصحاب والجيران وتناول الفطور والسحور على مائدة واحدة يزيد من التآخي والألفة والمودة بين البشر.. نعم هذا صحيح ولكن التباعد الجسدي لا يعني بدوره التباعد الروحي، فوسائل التواصل الحديثة متنوعة وجميعها تقرب بين الناس وكأنهم يعيشون تحت سقف واحد.
يقول الحق سبحانه وتعالى "وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم" فربما هذه العزلة فيها الخير للإنسان إذا ما أحسن استغلالها؛ لأن الوقت الذي كان يهدره في الولائم والعزومات والخروج مع الأصدقاء أصبح بإمكانه استغلاله في قراءة القرآن والصلاة والتعبد والتهجد والإكثار من أعمال الخير التي يمكن أداؤها من المنزل مما يزيد من حسناته، فنحن فعلا بحاجة للتفرغ للعبادات بعد أن شغلتنا دوامة الحياة في تفاصيلها الكثيرة والتي أبعدتنا بعض الشيء عن الأعمال التي تقربنا من الله سبحانه وتعالى.. لذلك فإن المؤمن الكيِّس الفطِن هو الذي يستطيع تحويل محنة الوباء لمنحة ربانية يستفيد منها في حياته.
إن الأعداد المتزايدة للمصابين بوباء كورونا تحتم علينا التقيد بالتعليمات الوقائية والتضحية بالطقوس الرمضانية المعهودة.. فالفيروس يتوحش أكثر مع تطور سلالاته المتحورة التي تنتشر بسرعة البرق، واللقاحات ما زالت تكافح لمواجهته، ولكنها لا تضاهيه في تأثيراته، لا من ناحية الفاعلية بنسبة مئة بالمئة، ولا من ناحية التوريد الكافي لتحقيق المناعة المطلوبة.
ونحن في بدايات الشهر المبارك مطلوب من كل رب أسرة أن يعد برنامجا لأفراد أسرته لكي يستطيعوا الاستفادة من النفحات الإيمانية التي يهبها الله جلَّ شأنه لعباده الصائمين، ويستغلوا كل دقيقة في هذا الشهر بما يعود عليهم بالخير دنيا وآخرة.
مرحبًا بالضيف العزيز وبنفحاته الإيمانية.. ونسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعا من عتقاء الشهر الفضيل.. ونبتهل إليه سبحانه أن يحفظ بلادنا من كل شر ويبعد عنا غمة الوباء.. ويتقبل الطاعات من الجميع في شهر الخير.. كل عام والجميع بخير.