د. جمال عبد العزيز أحمد:
من سمات العربية وخصائصها أنها تمتلك في الفعل الواحد عددًا من الدلالات، والمعاني يختلف معها عملُه، ووظائفه النحوية؛ ولذلك شواهدُ كثيرة، لأفعال متعددة،تمتلئ بها معاجم اللغة وقواميسها على اختلاف مشاربها، وتنوع عطائها، ومنها على سبيل المثال الفعل (رأى) الثلاثي، فالفعل (رأى) له أربعة معان متعددة، تأتي وفق سياقاتها في التراكيب، وكل لفظ منها له عملٌ نحويٌّ يختلف عن اللفظ الآخر في سياقه، فالمعنى الأول له للفعل (رأى) هو الرؤية البصرية، نقول:(رأى محمدٌ خالدًا) أيْ: أبصره بعينه، ورآه ببصره، والفعل هنا يتعدى إلى مفعول واحد، ولا يتعدى إلى مفعولين، فإذا جاء بعده لفظ آخر غير المفعول به منصوبٌ فإنه يكون قد نُصِبَ على الحالية، نحو:(رأيت زيدًا باكيًا) أيْ: أبصرتْه عيني حالة كونه باكيًا، أو وهو يبكي، فبيَّنت الكلمة حاله عند رؤيته، ونحو:(رأيت عليًّا مبتسمًا)، أي: أبصرته وهو يبتسم، أو حالة كونه مبتسمًا، وعندئذ يكون مصدره (رؤية) بتاء مربوطة كالعين كأنها تقرب المصدر إلى فعله:(رآه بعينه رؤية)، فالفعل (رأى يَرَى رؤيةً) بمعنى: أبصر بعينيه، ويتعدى إلى مفعول به واحد، وهو من (باب فتَح يفتَح)، بفتح العين ماضيًا ومضارعًا، ولكنه في النوع الثاني، والدلالة الثانية بمعنى (العلم)، ويتعدى إلى مفعولين اثنين، ويكون من باب ظن، أيْ: من باب الأفعال التي تتعدى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، نقول:(رأيتُ الامتحان سهلًا) أيْ: علمتُه بعقلي، وفكري، ونحو:(رأيت الله أكبر كل شيء ..)، أيْ: علمتُه، ومنه قوله تعالى:(إنهم يرونه قريبًا ونراه بعيدًا)، ومصدره عندئذ (رَأْيٌ)، نقول:(يرى محمود في المسألة رأيًا متوازنًا) بياء ليس بعدها تاء، وهو في المضارع بوزن (يَفَلُ) لأن الهمزة المقابلة للعين حُذِفَتْ تخفيفًا، والنوع الثالث من الفعل (رأى) هو رأى الحُلْمية أو المَنامية التي تعني أن كان يرى، ولكن في منامه، نحو قولك:(رأيت عليًّا يطير في الهواء)، و(رأيت زيدًا يمشي على الماء) أيْ: في منامي، حيث لا يعقل أن يطير إنسانٌ في الهواء، وهذه اللفظة بهذا المعنى تنصب مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، مثل (رأى) العلمية أو اليقينية السابقة،

ومصدرها (رؤيا) بالألف القائمة، نقول:(رأى في منامه رُؤيَا صالحة)، و(رأى رؤيا مُفرحة)، ومنه قوله تعالى:(وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن)، وأما النوع الرابع من الفعل (رأى) فيأتي بمعنى (ضرب رئته)، أي: أصاب رئته، مثل قولنا: (دمغه) أي: ضربه في دماغه، و(رأسه) أي: ضربه في رأسه، و(يداه) أي: ضربه في يده، و(بطنه) أي: ضربه في بطنه .. وهكذا، فمعنى قولنا:(لما رأيتُه في ميدان الوغى رأيتُه) أي: لما تلاقينا في ميدان الحرب ضربته في رئته فأصبتُ رئته، وأرديتُه قتيلًا أو جريحًا، وهذه اللفظة بهذا المعنى تتعدى إلى مفعول واحد فقط مثل:(رأى) العادية التي هي بمعنى (أبصر)، أو (رأى) البصرية التي شرحتها من قبلُ.

وخلاصة تلك الخصيصة من خصائص اللغة أن الفعل (رأى) له أربع دلالات، وكل دلالة لها عملٌ نحوي، ووظيفة لغوية محددة، فـ(رأى رؤية) من البصر تتعدى إلى واحد، و(رأى رؤيا) تتعدى إلى اثنين، و(رأى رأيًا) يتعدى إلى اثنين، و(رأى رئته) بمعنى: أصاب رئته وآلمه تتعدى إلى مفعول واحد، وهذا من خصائص لغتنا الشريفة، ويجب التنبُّه له.

ونواصل بيانَ خصائصِ اللغة في جانبٍ آخرَ من جوانبها في اللقاء القادم، وصلى الله، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، وكل عام، وأنتم وأسركم بخير، وتوفيق.

* جامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية.

[email protected]