علي بن سالم الرواحي:
الآية السادسة من الجزء السادس:(عيسى ليس ربًّا ولا إلهًا): (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) (النساء ـ 171).

المناسبة:

لمّا ذكر الله سبحانه جرائم اليهود، ذكر سبحانه كفر اليهود بعيسى، ومحاجته للنصارى ودعوتهم إلى عدم الغلو في عيسى (عليه السلام) ذاكرًا الأدلة العقلية التي تقطع ببشريته.

وجاء ختام السورة في الميراث ما بين الأقارب، مثل ميراث الأب لابنه، لتلفت النظر أن هناك ميراثًا بشريًا، بينما لا يوجد الميراث الرباني لبشر بأن يخضه شيء من صفاته لا يجوز قطعًا، إذ لا قرابة نسبية بين الله والبشر، أضف إلى ذلك أن الله لا يموت أبدًا سبحانه.

المقصد العام للآية:

تقرير عقيدة التوحيد وهي عقيدة المسلمين منذ بدء الخليقة وحتى قيام الساعة.

محل الإشكالية:

اعراب (ابن مريم)، (وكلمته)، (ألقاها إلى مريم)، (وروح منه)، (ثلاثة)، إعراب (انتهوا خيراً لكم)، (أن) في قوله (أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ).

أسباب الإشكالية:

1 ـ اعراب (ابن مريم): على أقوال، وجاء في كلها تابعًا: (أ) ـ (عيسى) بدل من (المسيح) و(ابن مريم) عطف بيان على (عيسى)، وهو ما يأتي موضحًّا للمعارف أو مخصصًا للنكرات، غير مشتق (أي: جامد) ولا مؤول بالمشتق، ويتبع متبوعه في الإفراد والتذكير والتنكير، (ب) ـ صفة لـ(عيسى)، (ج) ـ بدل من (عيسى).

2 ـ (وكلمته):(أ) ـ قول النصارى: أن عيسى كلمة الله الأزلية فهو جزء من الله كما أن صفة التكلم أو النطق صفة ذاتية له سبحانه، هذه الكلمة حلّت في بطن مريم، كما قال سبحانه:(ألقاها إلى مريم) فصارت لحمًا ودمًا مكوِّنة المسيح، وأجاب المسلمون على قولهم أنه محال لوجوه: كيف يحوي الحادث وهو (مريم) القديم وهو (عيسى)، ومن الواجب لـ(الكلمة) أن لا تتغير لأنها قديمة، وهنا تغيرت إلى عيسى، وتحوّل (الكلمة) وهي صفة النطق لله تعالى ـ بل عين ذاته سبحانه ـ إلى ذات أخرى وهي (عيسى) لا يجوز، وانتقال صفة النطق مجردة بين الله سبحانه ومريم يعني قيامها بنفسها عندما تخرج من ذات الله ـ استغفر الله ـ سبحانه إلى أن تدخل في مريم (عليه السلام)، وهذا لا يصح لأن الصفة لا تنفك عن موصوفها، (ب) قول القرآن: إن (كلمته) هي خلق الله له بكلمة (كن) دون واسطة أب ولا نطفة، فلمّا كان له هذا التمييز كانت هذا كلمة تمييز عن باقي كلماته سبحانه، فنسب الكلمة إليه تشريفًا لعيسى، وفي ذلك رد لافتراء اليهود على مريم بالزنا، و(كلمته) معناها: كلمة من الله، وهكذا نرى أن عيسى صار بكلمة الله، لا أن الكلمة الأزلية صارت عيسى، ومن معانيها الآية في قال تعالى:(وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) (التحريم ـ 12)، وكما خلق الله عيسى بلا أب، فقد خلق الملائكة وآدم وإبليس بلا أبوين، وخلق حواء بأب دون أم، وخلق سائر الناس والجن بأبوين، وفي كل ذلك دليل على طلاقة قدرة الله سبحانه، وقيل:(كلمته) أي: بشارته لمريم بالمسيح، قال الله تعالى:(إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (آل عمران ـ 45).

3 ـ (أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ):(أ) ـ قول النصارى هو حلول الكلمة القديمة في مريم، (ب) ـ قول القرآن: ألقاها بنفخ جبريل في صدر مريم أو في فمها فحملت بعيسى.

4 ـ معنى (وروح منه):(أ) ـ قول النصارى: الروح من ذات الله، حيث عدّوا (من للتبعيض) وبما أن ذات الله ذات ربانية إلهية فكذلك ذات عيسى ربانية وإلهية، وأجاب المسلمون على قولهم بأنه: يلزم أن يكون المسيح روح الله كلها، وتتجزأ منه، والله ليس بجوهر ولا عرض، فكيف تتجزأ ذاته، وأن يموت الله بعد ما تحوّلت روحه لتشكِّل المسيح، وبما أن النتائج محالة لزم أن يكون المقدِّمات محالة، (ب) ـ قول القرآن: (منه) أي: مخلوقة ومبتدأة من الله سبحانه، إذن عيسى ليس قديمًا، وهو مخلوق بـ(كلمة كن)، إذ هو قطعًا ليس جزءًا من الله سبحانه وتعالى، وقد سمّاه الله سبحانه وتعالى (روحًا) لأمور: إن جبريل نفح في صدر مريم أو في فمها فحملت بالمسيح، وهذا لم يحصل للإنسان العادي، حينما خُلِق من غير جزء ذي روح، والمراد بالجزء هو النطفة، فسُمِّي روحًا تشريفًا له وتمييزًا به من غيره، وإن الله أجرى على يديه خوارق العادات كإحياء الموتى، فكان مؤيدًا بروح منه، أي: بآيات منه، كما قال سبحانه:(وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (المجادلة ـ 22)، ولأنه صار برهانًا حيًّا بأكمله على قومه، أطلق الله عليه (روحًا)، لعله مجاز مرسل علاقته السببية، حيث سمّى المُسبَّب وهو (عيسى) باسم السبب وهو (الروح)، وإنه رحمةً من الله، مثلما فسَّر كثير المفسرين (الروح) بأنه رحمةٌ، ومن معاني (الروح): الحكيم والفاضل والمحبوب والنافع، وكل ما سبق من معاني الروح ومغازيه متحقق في عيسى ـ عليه السلام.

5 ـ (ثلاثة) أي: آلهتنا ثلاثة: (أ) ـ أقوال النصارى: قال نصارى نجران: أن عيسى ابن الله، حيث تكوّن كجزء منه، ولما له من خوارق العادات كإحياء الموتى، قال الله سبحانه:(وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ) (التوبة ـ 30)، وقالت الماريعقوبية والنسطورية: إن عيسى هو الله سبحانه، قال الله تعالى:(قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) (المائدة ـ 17)، وقالت المرقوسية وعليه اتفاق النصارى كلهم: أن الله ثالث ثلاثة، قال الله تعالى:(قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ) (المائدة ـ 73)، ويتفقون على جعل الله جوهرًا ذا ثلاثة أقانيم ـ أي ثلاثة قوى أو صفات ـ وكل أقنوم يُشكِّل إلهًا مستقلًا عن الآخر، وتتحد لتُشكِّل إلهًا واحدًا، وتأوّلوا عقيدة التثليث بقول المسلمين (بسم الله الرحمن الرحيم)، حيث فيه اسم الله مع صفتي الرحمن والرحيم، وقالوا بوجود طبيعتين في المسيحية: الأولى لاهوتية اكتسبها من الأب، والثانية ناسوتية اكتسبها من الأم، وينعتونه أحيانًا بابن الله، وأحيانًا بابن الرب، وأحيانًا أخرى بابن الإنسان، وقال المسلمون: كيف يكون الثلاثة واحدًا والواحد ثلاثة؟!، إن هذه بالضرورة متناقض مع العقل، فكيف يكون عقيدة، كما أنهم مضطربون في وصف عيسى، وكيف تجتمع صفتان متناقضتان في محل واحد في وقت واحد، هذا محال هادم للعقيدة النصرانية، وكيف تأتيه الناسوتية إذا كان أبواه إلهين، وكيف تأتية اللاهوتية وهو يمشي على الأرض تعترضه الأسقام والمصاعب كسائر الأجسام، وهو مغلوب على أمره، وقول القرآن:( إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) (النساءـ 171) فهو سبحانه واحد لا يتعدد ولا يتجزأ، وله ملك كل شيء فهل يحتاج إلى ولوهو قائم سبحانه بتدبير أمور كل شيء، لا يصعب عليه شيء، وكل شيء هو هيّن عليه سبحانه.

* كاتب عماني