محمود عدلي الشريف*
أيها الصائمون .. حديثنا اليوم حديثٌ خاص، له في القلوب مكانة، وله في النفس وقع، وله في الأسماع شجون، وله في الأعين قرة، لأن الحديث عن بيت رسول الله ـ بأبي هو وأمي صلوات ربي وسلامه عليه ـ ولأن الشوق يطير بنا إلى هناك، فاسمحوا لي ـ إخوة التوحيد والهدى ـ أن أصحبكم لننزل جميعًا في بيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نضيء أعيننا بنوره وهيئته وحجراته فإلى هناك، فبيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) العظيم المهيب الذي تحيط به السكينة وتلفه الطمأنينة، على الرغم من تواضعه وبساطته، فهو عظيم بعظم من يسكنه.

روي في حديث ابن أبي هالة:(أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان فَخْمًا مُفَخَّمًا أَي: عظيمًا مُعَظَّمًا في الصدور والعيون ولم تكن خِلْقته في جسمه الضخامة، وقيل ـ معناها ـ الفَخامة في وجهه: نُبْلُه وامْتِلاؤه مع الجمال والمهابة، وأتيْنا فلانًا فَفَخَّمْناه أي:عَظَّمْناه ورفعنا من شأْنه، أي: كان معظّمًا في صدور الصدور وعيون العيون لا يستطيع مكابر ألا يعظمه وإن حرص على ترك تعظيمه كان مخالفًا لما في باطنه)، (التعريف بنبي الرحمة (صلى الله عليه وآله وسلم) (ص: 3، بترقيم الشاملة آليا)، وها نحن ـ أحباب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ـ قد وصلنا إلى بيت حبيب قلوبنا، أذن لنا واستقر بنا المقام في وسط بيت نبي هذه الأمة ـ عليه الصلاة والسلام ـ لنجيل النظر وينقل لنا الصحابة واقع هذا البيت من فرش وأثاث وأدوات .. وغيرها، ونحن نعلم أن لا ينبغي إطلاق النظر في الحجر والدور، ولكن للتأسي والقدوة نرى بعضًا مما في هذا البيت الشريف، (إنه بيت أساسه التواضع ورأس ماله الإيمان، ألا ترى أن جدرانه تخلو من صور ذوات الأرواح التي يعلقها كثير من الناس اليوم؟ ثم أطلق بصرك ـ أخي المشتاق لرؤية رسولك الحبيب ـ لترى بعضًا مما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يستعمله في حياته اليومية) (يوم في بيت الرسول، تأليف: عبد الملك بن محمد القاسم، ص: 15)، و(أول ما نري من البيت: الصورة العامة للبيت، قال المفسرون: أي: من المدينة لأنها مهاجره ومسكنه فهي في اختصاصها به كاختصاص البيت بساكنه، أو المراد بيته بها) (وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى 1/ 16).

وصفة بيته (صلى الله عليه وسلم) كالتالي: (أولًا) ـ الحجرات: ذكر صاحب كتاب (تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام والمدينة الشريفة والقبر الشريف، ص : 268):(لما بنى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَسْجده ـ الشريف بالمدينة ـ بنى بَيْتَيْنِ لزوجتيه عَائِشَة ـ بنت أبي بكرـ وَسَوْدَة ـ بنت زمعة ـ رَضِي الله عَنْهُمَا ـ على نعت بِنَاء الْمَسْجِد من لبن وجريد، وَكَانَ لبيت عَائِشَة ـ رَضِي الله عَنْهَا ـ مصراع وَاحِد من عرعر أوساج، وَلما تزوج النَّبِي ـ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ـ نِسَاءَهُ بنى لَهُنَّ حجرات وَهِي تِسْعَة أَبْيَات، وَهِي مَا بَين بَيت عَائِشَة ـ رَضِي الله عَنْهَا ـ إِلَى الْبَاب الَّذِي يَلِي بَاب النَّبِي ـ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)، قَالَ أهل السّير:(ضرب رَسُول الله ـ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ـ الحجرات مَا بَينه وَبَين الْقبْلَة والشرق إِلَى الشَّام، وَلم يضْربهَا فِي غربيّه، وَكَانَت خَارِجَة من الْمَسْجِد مديرة بِهِ إِلَى جِهَة الْمغرب، وَكَانَت أَبْوَابهَا شارعة فِي الْمَسْجِد)، قَالَ عمرَان بن أبي أنس:(كَانَت مِنْهَا أَرْبَعَة أَبْيَات، بِلَبن لَهَا حجر من جريد، وَكَانَت خَمْسَة أَبْيَات من جريد مطينة لَا حجر لَهَا، على أَبْوَابهَا مسوح الشّعْر)، قَالَ النجار:(وذرعت السّتْر فَوَجَدته ثَلَاثَة أَذْرع فِي ذِرَاع، وحجرات أَزوَاج النَّبِي ـ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ـ لَيست من الْمَسْجِد وَلَكِن أَبْوَابهَا شارعة فِيهِ)، وَقَالَت عَائِشَة ـ رَضِي الله عَنْهَا:(كَانَ رَسُول الله ـ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ـ إِذا اعْتكف يدني إِلَى رَأسه فأرجله)، وَعَن عبد الله بن يزِيد الْهُذلِيّ قَالَ:(رَأَيْت بيُوت أَزوَاج النَّبِي ـ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ـ حِين هدمها عمر بن عبدالْعَزِيز كَانَت بُيُوتًا بِاللَّبنِ وَلها حجر من جريد، وَرَأَيْت بَيت أم سَلمَة وحجرتها من لبن فَسَأَلت ابْن ابْنهَا، فَقَالَ: لما غزا رَسُول الله ـ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ـ دومة الجندل بنت أم سَلمَة بَابهَا وحجرتها بِلَبن، فَلَمَّا قدم رَسُول الله ـ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ـ نظر إِلَى اللَّبن فَقَالَ: مَا هَذَا الْبناء؟ فَقَالَت: أردْت أَن أكف أبصار النَّاس. فَقَالَ لي: يَا أم سَلمَة شَرّ مَا ذهب فِيهِ مَال الْمُسلمين الْبُنيان)، وَقَالَ عَطاء الخرساني:(أدْركْت حجر أَزوَاج النَّبِي ـ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ـ من جريد النّخل على أَبْوَابهَا المسوح من شعر أسود فَحَضَرت كتاب الْوَلِيد يقْرَأ يَأْمر بإدخالهم فِي الْمَسْجِد، فَمَا رَأَيْت باكيًا أَكثر من ذَلِك الْيَوْم)، وَسمعت سعيد بن الْمسيب يَقُول يَوْمئِذٍ:(وَالله لَوَدِدْت أَنهم يتركونها على حَالهَا ينشأ نَاس من أهل الْمَدِينَة فَيقدم القادم من الْآفَاق فَيرى مَا اكْتفى بِهِ رَسُول الله ـ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ـ فِي حَيَاته، فَيكون ذَلِك مِمَّا يزهد النَّاس فِي التكاثر وَالْفَخْر)، وَقَالَ يزِيد بن أُمَامَة:(ليتها تركت حَتَّى يقصر النَّاس من الْبُنيان)، ويروا مَا رَضِي الله عز وَجل لنَبيه ـ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ـ ومفاتيح الدُّنْيَا عِنْده، وَكَانَ فِيهِ خوخة إِلَى بَيت النَّبِي ـ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ـ وَكَانَ رَسُول الله ـ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ـ إِذا قَامَ من اللَّيْل إِلَى الْمخْرج اطلع مِنْهُ يعلم خبرهم، وَكَانَ رَسُول الله (صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) يَأْتِي بَابهَا كل صباح فَيَأْخُذ بعضادتيه وَيَقُول:(الصَّلَاة الصَّلَاة، إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرًا)، قَالَ الْحَافِظ محب الدّين بن النجار:(وبيتها الْيَوْم حوله مَقْصُورَة، وَفِيه محراب وَهُوَ خلف حجرَة النَّبِي ـ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)، قَالَ عفيف الدّين الْمرْجَانِي: (وَهُوَ الْيَوْم أَيْضًا بَاقٍ على ذَلِك)، وروى الإمام البخاري في الأدب المفرد عن داود بن قيس قال:(رأيت الحجرات من جريد النخل مغشّى من خارج بمسوح الشعر، واظن عرض البيت من باب الحجرة نحوًا من ستة أو سبعة أذرع، وأحرز البيت من الداخلي عشرة اذراع)، ويصفها لنا الحسن البصري وهو الذي رُبِّى في حجر أم سلمة زوج النبي (صلى الله عليه وسلم) فيقول:(كنت أدخل بيوت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنا غلام مراهق وأنال السقف بيدي، وكان لكل بيت حجرة وكانت حجرة من أكسية من خشب عرعر)، وفي رواية له أيضًا بلفظ:(أدركت بيوت أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مستطيرة ـ أي: منتشرة ـ في القبلة وفي المشرق وفي الشام ليس في غربي المسجد منها شيء وكان باب عائشة يواجه الشام)، وعن هشام بن عروة قال:(إن ابن الزبير ليعتد بمكرمتين ما يعتد أحد بمثلهما، أن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أوصت له بيتها وحجرتها، وأنه أشترى حجرة سودة وكله يقتضي أن الحجر كانت على ملك نسائه ـ صلى الله عليه وسلم)، (خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى 2/ 74)، وقال الكتاني في (التراتيب الادارية 2/ 78):(وكان منزل السيدة عائشة صُفة إلى منزل السيدة فاطمة وكان به فتحة إلى القبلة يؤيد ذلك قول ابن زبالة كان بين بيت حفصة ومنزل عائشة طريق وكانتا تتهاديان الكلام وهما في منزلهما من قرب ما بينهما وكان بيت حفصة على يمين خوخة آل عمر في جنوب بيت عائشة إلى الشرق وكان من دونهما منازل بقية الأزواج الطاهرات وكان بمنزل فاطمة شباك يطل على منزل أبيها، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستطلع أمرها منه).

(ثانيًا) ـ المشربة: وهي الغرفة، جاء في (خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى 2/ 73): قال:(وكان المسجد يضيق عن أهله قال وليست من المسجد ولكن أبوابها شارعة في المسجد ولم يتعرضوا المحل المشربة التي أعتزل فيها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما آلى من نسائه شهرًا، والغرفة: العلية والصفّة بين يدي الغرفة والجمع مشارب) (معجم متن اللغة 3/ 297).

(ثالثًا) ـ السهوة: فِي (صحيح مسلم 3/ 1668) عَنْ عَائِشَةَ، قالت:(دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَدْ سَتَرْتُ سَهْوَةً لِي بِقِرَامٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ، فَلَمَّا رَآهُ هَتَكَهُ وَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ وَقَالَ: يَا عَائِشَةُ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَطَعْنَاهُ فَجَعَلْنَا مِنْهُ وِسَادَةً أَوْ وِسَادَتَيْنِ)، ومعنى السهوة: بيت صغير منحدر في الأرض قليلًا شبيه بالمخدع والخزانة، وقيل: هو كالصفّة تكون بين يدي البيت، وقيل: شبيه بالرف أو الطاق يوضع فيه الشيء (تفسير القرطبي 14/ 274).



[email protected]*