د.جمال عبد العزيز أحمد:
هذه ظاهرة جديدة من الظواهر اللغويَّة التي تتَّسمُ بها لغتُنا العربيةُ، وتمتلئ بها معاجمُنا، وتراها ماثلة في معظم أفعال العربية، حيث تجدُ الفعل تتعدَّد معانيه، وتختلف دَلالاتُه باختلافِ ما يتعلق به من أشباه الجمل، لأنها هي التي تصلُه بما بعده من الأسماء، فترى مثلًا أفعلا لها متعلقاتها من أشباه الجمل كما في نحو قولهم:(هدف إلى، وتعلق ب، وعمد إلى، ونبَّه على، وأشار إلى، وأخذ من، واعتمد على، ودخل في) .. ونحوها من أشباه الجمل التي تحدِّد معنى الجملة، وتضع حاجزًا لغويًا حصينًا يمنع من إرادة معنى آخر، ونعجِّل هنا بالتماس الأدلة على صواب ما نقول، وذلك من خلال إيرادِ أفعالٍ كثيرة، نكتفي ببعضها لتوضيح تلك السمة، وهاتيك الخصيصة، ونتركك تبحث عن أخواتها، وقريناتِها، بعد أن أنرْنا لك الطريقَ، وبصَّرْناك بالقضية، ودلَلْنا عليها بعدد من المواد اللغوية المعجمية، كما نفعل في كلِّ سرٍّ نأتي به من أسرار اللغة، وبيانِ سِمَةٍ من سماتها في كتاباتِنا في هذا الحفل الرمضانيِّ الكونيِّ الكبيرِ، هادفين من وراء ذلك إلى فتح مغاليق هذه الكنوز اللغوية، والكشف عن تلك الطاقات الكبيرة التي تمتلكها العربية، والتي فاقت بها غيرَها من اللغات الأخرى.

وعليك أنتَ - أيها القارئُ الكريمُ - أن تتتبَّعَها في معاجم اللغة، وقواميسِها كلما أنعمَ اللهُ عليك ببعض الوقت الذي تُمْضِيهِ بين بساتينِ معاجمِها، ورياضِ قواميسِها، تعتبق شذًى من شذاها، وتشمُّ مِسْكَةً من مِسَكِهَا العاطرة، وتستروح شيئًا من روائحها العبقة الزاكية، الراقية، الماطرة، ومن ذلك الفعل:(أتى) حيث ورد في اللغة، وله معانٍ كثيرةٌ، تختلف باختلاف متعلقها الآتي بعدها، فالفعل (أتى، يأتِي) هو من باب (ضَرَبَ، يَضْرِبُ)، مكسور العين في الميزان، أي: التاء، ومصدره (أتْيًا، وإتْيَانًا، وإِتِيًّا، ومَأْتًى، ومَاْتاةً)، فإذا قلت:(أتيت الأمرَ من مأتاه) أي: من وجهه، تعدَّى إلى المفعول به، وكان له هذا المعنى، وإذا قلت:(أتى الأمرُ)، أو (أتى أمرُ الله) كان فعلًا لازمًا، وحمل معنى الحضور والمجيء، فهو بمعنى قرُب، ودَنا، ولكنْ، إنْ عديته بحرف الجر(على) فقلت:(أتيتُ عليه) كان معناه أنفذتُه، وأنهيتُه، ونقول:(أتى عليه الدهر) فيتغير إلى معنى: أهلكه، ودمره، ونقول:(أتى الرجلَ، والأمرَ، والمكانَ) بمعنى: جاءه، لكنْ، إن قلتَ:(أتى المرأةَ) خرج إلى معنى الاتصال بها، والمباشرة على وجه الخصوص، ولذلك سمعت بعض اللغويين يقول: الأولى مع الرجال ألا يقال:(أتيتُه)، بل جئته، أو سعيت إليه، أو نحو ذلك، حتى لا يلتبس بهذا المعنى الخاص بالمرأة، لأن هذا المعنى مع النساء يعني الإتيان، والمباشرة، وإنْ قلت:(أتى القومَ) كان بمعنى: انتسب إليهم، وليس منهم، فهو (أَتِيٌّ)، كدَعِيّ، منسوب إلى غير أهله.

وبالطبع فإن هناك فارقًا واضحًا بين الفعلين:(جاء، وأتى)، فالفعل (أتى) يأتي بمعنى: قارب المجيء، بينما الفعل:(جاء) يعني أنه وصل بالفعل، اقرأ قوله تعالى، وقارنْ بين الفعلين:(أتى، وجاء) في سياقَيِ الآيات الآتية، وتعرَّفْ الفارقَ بين الصيغتين، قال الله تعالى في قصة سيدنا موسى ـ عليه السلام:(فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ) (القصص - 30)، وقال - جلَّ جلاله - في سورة طه:(فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى) (طه - 11)، ولكنه في سورة النمل يقول - جلَّ شأنه:(فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (النمل - 8).

ففي سور القصص ما إن ظهر ولاح موسى - عليه السلام - من بعيد، وظهر، وبان شكله، وقبل أن يصل تلقّى التعليماتِ، وأخذ آدابَ المقابلة من الله عز وجل، ونودي بخلع نعليْه، فهو لم يصلْ بعدُ، والآية تدل على أن الخطاب لسيدنا موسى - عليه السلام- ورد خطابًا عامًّا، وفيه تأكيد من الله - جلَّ جلاله ـ لسيدنا موسى - عليه السلام - بأنه ليس واهمًا فيما هو مُقْدِمٌ عليه، وأنه لم يُصِبْه من خلاله مسٌّ، أو شيطانٌ، أو جَانٌّ، وإنما هو خطاب من الله تعالى إليه، فقد نال شرف خطاب الله له بقوله:(إني أنا ربك)، أما في سورة النمل فقد وصل بالفعل، وأصبح قريبًا، وأصبح الخطاب مباشرًا، وتلقَّى الرسالة من الله كفاحًا، بيانًا، وسماعًا في هذا الموقف الجليل، الرهيب، الرعيب:(فلما جاءها) أيْ: وصل إليها، ولذلك أيضًا تقرأ في سورة القصص (الآية : 25):(فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، تكرر الفعل جاء، وأنت قَمِينٌ بفهمه في موضعيْهِ، نقول: جاء فلان: إذا اقترب منك حتى جلستَ معه، فيقال: (جاء)، بينما يقال:(أتى فلان) إذا كان قريبًا منك، وليس ملاصقًا مرئيًّا لك، فيكون بمعنى لاح، واقترب، وظهر فقط، فقد فرقت اللغة العربية، ولغة القرآن الكريم بين دلالة كل فعل، وجاءت واضحة في نصوصه الكريمة، ووضعت يد المسلم على الفروق المعنوية بين كل صيغة من صيغ الكتاب العزيز، هذا، ونواصل بيانَ خصائص اللغة في جانب آخر من جوانبها في اللقاء القادم، وصلى الله، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، وكل عام، وأنتم وأسركم بخير، وتوفيق.

* جامعة القاهرة - كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية
[email protected]