سعود بن علي الحارثي:
يقال إن أول من قال من العرب "لا ناقتي فيها ولا جملي" هو الحارث بن عباد البكري, وكان ذلك في حرب البسوس التي هاجت بين بكر وتغلب بسبب قتل جساس كليبا، وكان الحارث قد اعتزل الحرب أول الأمر ثم باشرها بعد أن أرسل ابنه جبيرا إلى المهلهل فقتله، وقال قولته المشهورة، بشسع نعل كليب، فلما بلغ الحارث ذلك وبالأخص ما قاله المهلهل، غضب وقال قصيدته المشهورة.
قربا مربط النعامـة مني .. لقحت حرب وائل عن حيال
لم أكن من جناتها علم الله.. وإني بحـرها اليـوم صالي
ما أحرى أن يستخلص العرب اليوم حكاما ومحكومين الدروس والعِبر من تلكم المواقف المشرفة والجهود الإنسانية النبيلة التي وقفها الحارث بن عباد لوقف حمام الدماء التي جرت بغزارة بين بكر وتغلب، ومن حِكمته وشجاعته وبُعد نظره وآرائه المتوازنة، والتفكُّر بعمق وروية فيما جرى ودار من أحداث ومشاهد في حرب البسوس التي استنزفت العرب لأكثر من أربعين عاما. لقد ظل الحارث بن عباد بعد أن اعتزل الحرب في بداياتها ـ فجنب قومه ويلاتها وخسائرها الجسيمة ـ يعمل بكل الطرق والوسائل مقدما خبرته ومستثمرا مكانته الاجتماعية وعلاقاته المتوازنة التي رسَّخها بحِكمته وحنكته فحظيت بالاحترام والتقدير من جميع الأطراف، وموظفا مبادراته الإنسانية لتحقيق السلام والوئام، ومنفقا أمواله وطاقته، باذلا الجهود لوقف تلكم الحرب المدمرة والعبثية، فلم ينجح في ذلك ولم يتمكن من وأدها في بداياتها برغم الآراء والخيارات التي قدمها وطرحها والحوارات التي قادها مع طرفي الصراع، وفشل في وقفها بعد اشتعالها بسبب تعنت المهلهل وإصراره على ملاحقة قبائل بكر وطلبه التعجيزي المشهور بأن يعود كليب إلى الحياة في مقابل وقفه الحرب، وهو مطلب غايته استمرار الصراع وتأجيجه والمزيد من المعارك والجولات والخسائر والقتلى، واستنزاف مقدرات العرب، وتعميق الانشطار وتفتيت كل أشكال التلاحم فيما بينهم لا غير، فاكتفى الحارث بعد ذلك بالابتعاد عن حرائقها وتوجيه النصح والمشورة، والوقوف موقف المتأسف والمتألم من هذه الحرب، والإصرار على عدم المشاركة فيها مهما كانت الضغوط والتحديات. ولكن هل استطاع أن يحافظ على موقفه وعلى اعتزاله الحرب؟ أم أُجبر على المشاركة فيها واقتيد بدون إرادته إلى ساحتها؟ هكذا هي الحروب تتسع مساحتها ويمتد شررها وتنتقل من موقع إلى آخر لتأخذ معها أبرياء جددا وبشرا لا ناقة لهم فيها ولا جمل كما قال الحارث، ويشعلها فرد فتدمر أُمَّة وتملأ الأرض خرابا ووجعا، وتخلف الفقر والمجاعات والأمراض والشقاء والخراب. فعندما حمل جبير رسالة والده الحارث إلى المهلهل في واحد من مساعي السلام التي كان يقوم بها. استل هذا الأخير سيفه فقتل الرسول في مجلسه، وقال قولته المشهورة "بل بشسع نعل كليب"، أي أن قيمة جبير كإنسان وإن كان ابن زعيم لا تقل مكانته عن المهلهل نفسه، لا تساوي عنده في مشروع الثأر الذي يقوم به شسع نعل كليب، وهو ما أشعل غضب الحارث، وكان على استعداد لتناسي ثأره وتجاوز مقتل ولده الوحيد الذي يحتل منزلة أثيرة في نفسه حبا وخوفا عليه لو اكتفى المهلهل به وأوقف الحرب واعتبره ندا لكليب أو واحدا من السادة، أما أن يضعه بمنزلة الشسع وهو ابن الحارث بن عباد البكري فذلك هو العار والذل والمهانة، وهو مما لا يرتضيه ولا يمكن السكوت عنه ـ كما علق الحارث على مقتل ابنه ـ وقتها قال قصيدته المشهورة التي خلدها التاريخ، ومنها:
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي ... لَقِحَت حَربُ وائِلٍ عَن حِيالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي ... لَيـسَ قَولي يرادُ لَكِن فعالي
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي ... جَـدَّ نَوحُ النِساءِ بِالإِعوالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي ... شابَ رَأسي وَأَنكَرَتني القَوالي
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي ... وَاِعـدِلا عَن مَقالَةِ الجُهّالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي ... لِجُبَيرٍ مُفَكِّكِ الأَغـلالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي ... لِكَـريمٍ مُتَوَّجٍ بِالجَمـالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي ... لا نَبيعُ الرِجالَ بَيعَ النِعالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي ... لِجُبَيرٍ فـداهُ عَمّي وَخالي
والنعامة هي فرسه، لقد أدى مقتل جبير إلى دخول الحارث طرفا رئيسيا في الحرب، حيث جمع قومه وبكر بن وائل لمواجهة تغلب وفي يوم تحالق اللمم أسر الحارث بن عباد المهلهل، ولم يعرفه بسبب شيخوخته وضعف نظره فقال له: "دلني على عدي وأخلي عنك"، وعدي هو المهلهل، فقال له عدي: "عليك العهد بذلك إن دللتك عليه"، قال: "نعم"، قال: "فأنا عدي"، فجز ناصيته، وأدى ذلك إلى ضعف المهلهل وافتضاح أمره وشعوره بالعار؛ لأنه جبن أمام الحارث مرتين لعدم تمكنه منه والتغلب عليه برغم شيخوخته وكبر سنه، ولأنه لم يكشف أمره للحارث إلا بعد أخذ العهد منه خوفا من الموت ويعد ذلك عارا عند العرب، وقد نتج عن اشتراك الحارث في الحرب هزيمة تغلب ونهايتها. عندما طعن جساس كليبا طعنته المشؤومة غيلة وفي لحظة غضب وطيش ومن أجل الكرامة، لم يحسب حسابا للنتائج، ولم ينظر إلى المستقبل نظرة بُعد وعمق، لقد أشعلت تلك الطعنة حربا ضروسا استمرت أربعين عاما قتلت من بكر وتغلب سادة كبارا فيهم الكثير من إخوة جساس وأبنائهم وبني عمهم وكانت الخسائر فادحة، ولو أنه انتصر على غضبه وحكَّم عقله فجلس مع نفسه يفكر ويتدبر ويستعرض الخيارات الأخرى المتاحة لمعالجة خلافاته مع كليب، وأخذ بمشورة أهل الحكمة والنظر، لجنَّب قومه تلك الحرب، وكليبا قبله لو حكم بالعدل وأصلح بين الناس ولم يأخذ قومه بما لا يستطيعونه من نظام جائر في الرعي والبناء والجوار والتعامل معه، لما دفع جساسا إلى قتله، ولو أن مهلهلا لم يسرف في القتل واكتفى بثأره على أنه ضرورة وقيمة من قِيم العرب في الجاهلية وقصاصا عادلا آنذاك، ولم يقتل رسول الحارث وهو ولده الأثير على نفسه، لما أجبر الحارث على الدخول في الحرب التي انتهت بكارثة عليه وعلى قومه.. إن التكبر والغرور وسطوة الملك ونفوذه، واللجوء إلى القوة، وقتل النفس البشرية بدون وجه حق والإسراف في القتل والتعصب الأعمى... جميعها أسباب ودوافع لهذه الحرب الكارثية.. التي لم يستفد العرب للأسف الشديد من دروسها العميقة، فها هي حروب البسوس تتكرر كما تكررت في الماضي عشرات المرات وبمبررات وأسباب ساذجة وأشد عبثية وبأسلحة أكثر فتكا وتدميرا وقتلا، فهل من معتبر؟