حامد مرسي:
يقول الحق سبحانه وتعالى:(وأيّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ).

سيدنا أيوب ـ عليه السلام ـ كان رجلاً تقيًا رحيمًا بالمساكين لم يأكل قط إلا مع يتيم يُكرِم الضيف، جميل الخلق وعظيم الخلق، أرسله الله نبيه أيوب إلى أهل الشام وأنعم عليه بنعمٍ كثيرة، كان يمتلك جميع أصناف المال من الإبل والبقر والغنم والخيل والحمير، وكان له أولاد كثيرون، فكان أولاده ـ كما ذكر المفسرون ـ سبعة ذكور وثلاث إناث، وكانت زوجته (رحمة) امرأة تقية صالحة أراد الله سبحانه وتعالى أن يبتليه ويمتحنه ويختبره في هذا كله فذهب ماله حتى صار فقيرًا بعد أن كان غنياً وفقد أهله وأولاده حتى صار وحيداً ومرض مرضاً شديداً فهزل جسمه حتى صار هيكلاً من العظم، فكان مرضه أنه مصاب بألم شديد في المفاصل، لا يقوى على القيام، وظل في البلاء مدة ثمانية عشر عامًا ولم يعترض على البلاء فلم يقل لماذا أمرضتني؟ ولماذا مات أولادي؟ ولماذا ذهب مالي وأهلي؟ بل قال:(ربي إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين)، وقالت له زوجته ذات يوم: ألا تدعو الله أن يشفيك! فماذا قال لها؟ قال: يا زوجتي كم سنة مضت عليّ وأنا صحيح الجسم؟ فتقول له: سبعون سنة. فيقول لها: وكم سنة مضت عليّ وأنا مريض؟ فتقول: ثماني عشرة سنة. فقال لها: يا زوجتي أستحي من الله أن أسأله الشفاء قبل أن تمر عليّ سبعون سنة وأنا مريض كما مرت عليّ سبعون سنة وأنا صحيح).

لقد عمَّ البلاء أيوب فشمل المال والأولاد والصحة، والبلاء يسري في جسده، يقول لرب العزة: (لا تجعل البلاء يصيب لساني يارب حتى أظل أقول لا إله إلا الله)، وانطلق إبليس إلى رجلين من أهل فلسطين كانا صديقين له وأخوين فأتاهما فقال لهما أخوكما أيوب أصابه البلاء في ماله وولده وصحته فاذهبا إليه وزوراه وأحملا معكما من خمر أرضكما فإنه إن شرب منها بريء فأتياه، فلما نظر إليه بكيا، فقال: من أنتما؟ فقالا: نحن فلان وفلان فرحب بهما، وقال: مرحبًا بمن لا يجفوني عند البلاء. فقال: يا أيوب لعلك كنت تسرُّ شيئًا وتظهر غيره فلذلك ابتلاك الله، فرفع رأسه إلى السماء وقال: هو يعلم ما أسررت شيئًا وأظهرت غيره، ولكن ربي ابتلاني لينظر أأصبر أم أجزع، أأشكر أم أكفر، فقالا: يا أيوب اشرب من خمرنا فإنك إن شربت منه برأت، فغضب وقال: جاءكما الخبيث فأمركما بهذا فكلامكما وطعامكما وشرابكما عليّ حرام، فقوما من عندي، فقاما، وخرجت زوجته لتبحث عن طعام فدخلت عن جماعة من الناس فجاءت برغيف عيش من الخبز ليأكله، فسألها أيوب قبل أن يأكله: من أين أتيت بهذا الخبز؟، يسأل وهو الفقير الذي لا يملك من طعام الدنيا شيئًا بعد أن كان غنيًا، ولكن فقره وشدته لم يمنعه أن يسأل عن مصدر رغيف الخبز أمن الحلال هو أم من الحرام؟ فتقول له زوجته الصابرة: كنت عند بعض الجيران وكان عندهم طفل طلب هذا الرغيف ولكنه نام ونسى أن يأكله قبل أن ينام، فقال لي: أهل هذا الغلام خذي هذا الرغيف لأيوب فإن الغلام قد نام، فقال لها أيوب: ارجعي الرغيف للطفل فربما قام من النوم فيسأل عن الرغيف فلم يجده فيحزن لذلك، وقالت زوجته: أأرجع برغيف عيش جاء من عند ناس برضاهم أأرجع به! وماذا أقول لهم؟ ولكنها لابد أن تلبي الأمر وتسمع الخطاب وترجع بالرغيف إلى أصحابه فيسألونها لِمَ رجعت به، فتقول: لأن أيوب قال لي ربما استيقظ الغلام فلم يجده فيحزن، وبينما هى تتكلم مع أصحاب الرغيف إذ استيقظ الغلام، وسأل عن الرغيف وبكى، فلما رآه كف عن البكاء، قالوا: يرحم الله أيوب ـ عليه السلام ـ وظلت امرأته تسعى لتعمل من أجله، فكلما أتت أهل بيت أعطوها فلما اشتد عليها ذلك وخافت على أيوب الجوع حلقت من شعرها قرنًا وباعته لصبية من بنات الأشراف فأعطوها طعامًا طيبًا كثيرًا فأتت به أيوب، فلما رآه أنكره وقال: من أين لك هذا؟ قالت: عملت لأناسٍ فأطعموني فأكل منه، فلما كان الغد خرجت لكي تعمل فلم تجد عملًا فحلقت قرنًا وباعته فأعطوها أيضًا الطعام والشراب فأتت به أيوب، فقال: والله لا أطعمه حتى أعلم من أين هو. فوضعت خمارها فلما رأى رأسها محلوقًا عند ذلك دعا ربه فقال:(ربي إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين) .. هذا والله أعلم.

* إمام مسجد بني تميم بعبري