د. جمال عبد العزيز أحمد:
لا نزال نواصل الحديثَ عن تلك السمة المتفردة من سمات العربية، وتلك الخصيصة التي قد لا نراها في لغاتٍ كثيرةٍ من لغاتِ الأرض، وهي تعلُّقُ شبه الجملة بالأفعال، وتعدُّد دلالة كلِّ تعلق منها بالفعل، ونستمطر نصوصَ القرآن الكريم، ونقفُ على جمالها، وكمالها، وضربنا بعض الأمثلة من اللغة، ومن النص القرآني الكريم فيما سبق، ونأخذ مادة لغوية أخرى، تعلَّقتْ فيها أشباهُ جملٍ بأفعالها، فتباينت معانيها، واختلفت مراميها، وذلك الفعل:(مسك) من باب (ضرب، يضرِب)، نقول:(مَسَكَ بالشيء مَسْكا): أخذ به، وتعلق، واعتصم، و(مسك الثوبَ): طيَّبه بالمسك، و(مَسَكَ السِّقَاءُ) (فعل لازم) يَمْسُكُ (بضم السين) كان كثيرَ الأخذ للماء، بينما المزيد بالهمزة:(أمسك) فله معانٍ أخَرُ، نقول:(أمسك عن الشيء، أو الطعام أو نحوه): كفَّ عنه، وامتنع، و(أمسك عن الإنفاق): اشتدَّ بخلُه، و(أمسك الشيءَ بيده): قَبَضَ عليه بها، و(أمسكَ الشيءَ على نفسه): حبسه، و(أمسك اللهُ الغيثَ) (دون تعدية بحرف): منع نزولَه، وكما نرى، فإن الفعل:(مسك وأمسك) قد اختلفتْ دلالتُهما باختلاف تعلقهما بشبه الجملة، أو اختلفتْ بسبب عدم تعلقهما بشيء، أو مجيئهما بلا تعلق، متعديين بأنفسهما، لا بوساطة شبه الجملة، ونأخذ مادة أخرى من مواد تلك اللغة نزداد بها معرفة وإقبالًا على لغة الكتاب العزيز، وهي المادة اللغوية، أو الفعل:(لمَّ، يلُمُّ)، وهو من باب (نصر، ينصُر)، نقول:(لَمَّ الشيءَ) دون تَعَدٍّ، فمعناه: جمعه جمعًا شديدًا، و(لَمَّ اللهُ شعثَه): جمع ما تفرق من أموره، وأصلحه له، لكن لو قلنا:(لّمَّ فلانٌ بفلان) فمعناه: أتاه فنزل به، وإذا بنيناه للمجهول، فقلنا:(لُمَّ فلانٌ) لكان معناه أصابه لَمَمٌ، أيْ: طَرَفٌ من جنون، فهو ملموم، أي: ممسوسٌ، مسَّه جنونٌ، وإذا جئنا بالمادة ذات الحروف الزائدة:(ألمَّ) الثلاثي المزيد بالهمزة نجد اختلافًا في المعنى كذلك، نقول:(أَلَمَّ الشَّيْءُ): قرُب، و(أَلَمَّ بالقومِ، وعلى القوم): أتاهم فنزل بهم، وزارهم زيارة سريعة، غير طويلة، و(أَلَمَّ بالمعنى): عرفه وأدركه سريعًا، و(ألَمَّ بالطعام): أكل، ولم يسرف فيه، و(أَلَمَّ بالأمر) لم يتعمقْ فيه، و(أَلَمَّ فلانٌ) (فعل لازم) باشر اللَّمَمَ، وهو صغارُ الذنوب، أو قاربه، و(أَلَمَّ الغلامُ): قارب البلوغَ، كما أن (ألم) يستعمل بمعنى (كاد)، ويقال في مثل ذلك:(ما فعل ذلك، وما ألمَّ)، أي: ما كاد أن يفعله، وهكذا تتضح تلك المعاني بهذا التعلق الذي رأينا، وتختلف الدلالاُت باختلاف التعلقات التي نظرنا، مما يدل على ما في تلك اللغة من مخزون لغوي، وطاقات تعبيرية لا نهاية، ولا حد لها، ثَمَّ اقتضتْ حكمةُ الله العزيز الحكيم أن يُنزِل آخرَ كلمته إلى الدنيا، وهي القرآن الكريم، بلسان عربي مبين، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وتُستنزَل البركات، وتحل الفيوضات، ولذلك ننبه دائمًا على ضرورة أن يكون القارئُ على ذِكْرٍ من تلك الدلالات، وهذه الخصائص التي تمتلكها اللغة العربية، حتى يتفهمَ سياقَات الأفعالِ في آياتِها، ويقفَ على معانيها الحقيقية في محَالِّها، وأماكنِها، فلا يخطئ فؤادَ الفهم، ولا يبتعد عن جوهرِ المعنى، وهي بفضل الله سمةٌ من سمات العربية، وخصيصةٌ من خصائصها الواضحة في صفحات الكتاب العزيز، وفي كُلِّ صوره وآياته، حيث تتعدَّدُ المعاني للفظة الواحدة عند تعلُّقها بشبه جملة، يختلف عن شبه الجملة الآخر، أو عند مجيء فعلها تعديًّا بنفسه، دون تعلق أيِّ شبه جملة به، وهي من أهمِّ سمات لغة الكتاب العزيز، فلغتُهُ، ومعانِيها بحرٌ لا ساحل له، واللغة العربية بذلك ترتقي لتتناسب مع كمال، وجلال القرآن الكريم الذي نزل بها إلى آخر الحياة، ونهاية الوجود، إنها لغةُ القرآن الكريم، الذي نزل في حقه قوله تعالى:(بلسان عربي مبين)، وأختم هنا بكلمة لأحدِ الباحثينَ المجتهدينَ المعاصرين التي يبيِّن فيها أهمية تعلُّم تلك اللغة، والوقوف على كلِّ سماتها، وخصائصها، لأنها لغة الكون، والبَشَر، ولغة الحضارة، ولها دورها الكبير، والواضح في وَحدة الأمة، وفي نهضتها، وحضارتها، وأنها أغربُ ما وقع في تاريخ البشر، حيث إنها لا طفولة لها، ولا شيخوخة، كما تفضَّل مَنْ نَقَلَ عنهم من الأجانب، قال الدكتور فرحان السليم: (واللغة من الأمة أساسُ وَحدتها، ومرآةُ حضارتِها، ولغةُ قرآنها الذي تبوَّأ الذروةَ، فكان مظهر إعجاز لغتِها القومية،إنَّ القرآن بالنسبة إلى العرب جميعًا كتابٌ لبستْ فيه لغتُهم ثوبَ الإعجاز، وهو كتابٌ يَشُدُّ إلى لغتهم مئاتِ الملايينِ من أجناس، وأقوام يقدِّسون لغة العرب، ويفخرون بأن يكون لهم منها نصيبٌ، وأُورِدُ هنا بعضَ الأقوال لبعض العلماء الأجانب قبل العرب في أهمية اللغة العربية)، يقول الفرنسي إرنست رينان:(اللغة العربية بدأت فجأة على غاية الكمال، وهذا أغرب ما وقع في تاريخ البشر، فليس لها طفولة، ولا شيخوخة)، ويقول الألماني فريتاغ:(اللغة العربية أغنى لغاتِ العالم)، ويقول وليم ورك:(إن للعربية لِينًا، ومرونةً يُمَكِّنَانِهَا من التكيف وفقًا لمقتضيات العصر)، ويقول الدكتور عبد الوهاب عزام:(العربية لغة كاملة، محببة، عجيبة، تكاد تصور ألفاظُها مشاهدَ الطبيعة، وتمثل كلماتُها خطراتِ النفوسِ، وتكاد تتجلَّى معانيها في أجراس الألفاظ، كأنما كلماتُها خطواتُ الضميرِ، ونبضاتُ القلوبِ، ونبراتُ الحياة)، ويقول مصطفى صادق الرافعي:(إنما القرآنُ جنسيةٌ لغويةٌ تجمع أطراف النسبة إلى العربية، فلا يزال أهلُه مستعربين به، متميزين بهذه الجنسية حقيقةً، أو حكمًا)، ويقول الدكتور طه حسين:(إن المثقفين العرب الذين لم يُتقِنوا لغتهم ليسوا ناقصي الثقافة فحسب، بل في رجولتهم نقصٌ كبيرٌ، ومَهِينٌ أيضًا)، نقلًا عن كتاب (اللغة العربية ومكانتها بين اللغات) للأستاذ الدكتور فرحان السليم (صفحة 4).

ونواصل بيانَ خصائص اللغة في جانب آخر من جوانبها في اللقاء القادم، وصلى الله، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، وكل عام، وأنتم وأسركم بخير، وتوفيق.



* جامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية.

[email protected]