”لعل أسعار النفط هي المؤشر الأكبر حتى الآن على حقيقة يتغافل عنها كثيرون ـ السياسيون عمدا والاقتصاديون عنجهية ـ وهي أن الأزمة المالية العالمية قبل أكثر من خمس سنوات كانت نتيجة اختلالات هيكلية في الاقتصاد العالمي لم يعالجها أحد. ولم تكن السياسات الحكومية في الدول الرئيسية وغيرها وعلى الصعيد العالمي سوى اجراءات "ترقيعية" مثل المسكنات للعلل الاقتصادية في النظام المالي والاقتصاد العالمي.”
ــــــــــــــــــــــــــ
فتح انهيار اسعار النفط منذ يونيو الماضي شهية كثير من الخبراء والمحللين والمعلقين كي يدلوا بدلوهم حول الاسباب وراء انهيار الاسعار بما يقارب النصف في بضعة اشهر والتوقعات لمستقبل سوق النفط وتبعات ذلك. وامتلأت ساحة الاعلام بالآراء من الاقتصاديين وغير الاقتصاديين، فلا غرو ان يدلي المرء بدلوه خاصة وان اسعار النفط تؤثر فينا جميعا حتى لو لم نكن منتجين أو مصدرين ولا حتى مستهلكين مباشرين فيكفي ان اي تذبذب في اسعار النفط يعني تغير اسعار مشتقاته ومنها الوقود (البنزين او غاز التدفئة او الطبخ) وبالتالي تتأثر اسعار الخضار الذي يتم نقله بشاحنات تتحرك بوقود هو من مشتقات البترول ويتأثر سعر الشاي والقهوة التي تطهى على موقد يعمل بالغاز وهو من مشتقات البترول. ولا يحاججن احد بأنه لا يستخدم الوقود او الغاز، بل الكهرباء (التي يعمل بها الحاسوب الذي اكتب عليه مقالي هذا) ـ فالكهرباء تولدها محطات تعمل بالديزل او الغاز وكلها من مشتقات البترول.
طبعا لا حاجة لإيضاح أهمية النفط للاقتصاد العالمي، فهو المحرك الرئيسي للصناعة والتجارة (النقل) والخدمات اي اجمالا وقود النمو الاقتصادي. ويكتسب النفط ـ والغاز ـ اهمية اضافية للدول المنتجة والمصدرة التي تعتمد على عائدات مبيعات الطاقة كمصدر رئيسي للدخل. لكن يبقى الأثر الكبر والأهم أن الطاقة الأحفورية (النفط والغاز) لا تزال هي المغذي الرئيسي للاقتصاد العالمي وبالتالي تتأثر به وتؤثر فيه في آن. ومع تراجع دور منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) في السنوات الأخيرة كصاحبة قرار حاسم في سوق النفط، إما بسبب الخلافات السياسية بين دولها الأعضاء أو نتيجة خسارتها لميزة أساسية في الاحتياطي والتصدير. فلم تعد دول أوبك ترقد على نصف احتياطي العالم من النفط، ولم تعد تصدر أكثر من نصف الاستهلاك العالمي منه. وليس هذا بجديد، بمعنى أنه لم يحدث بسبب زيادة انتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة في غضون العامين الأخيرين، ولا حتى بزيادة دولة رئيسية من خارج أوبك كروسيا التي زادت انتاجها وتصديرها لكنه تطور حدث على مدى عقدين من الزمن تقريبا.
بالطبع فإن كثيرا من العوامل التي يتحدث عنها الخبراء التقليديون والمحدثون في الآونة الأخيرة والتي أدت إلى تراجع أسعار النفط من أكثر من مئة دولار للبرميل إلى ما يقل عن ستين دولارا الآن هي عوامل صحيحة ومؤثرة. حتى بعض التحليلات المغالية في الشطط، من قبيل أن دولا غربية تستهدف الضغط على روسيا وإيران بإغراق السوق بالمعروض النفطي لتهوي الأسعار فتهبط عائدات البلدين بالقدر المؤلم اقتصاديا، ربما تكون فيها بعض الصحة. لكن من المهم هنا التأكيد على أن كل الفائض في المعروض يدور حول مليوني برميل يوميا وهي ليست بالكمية الكبيرة التي قد تهوي بالأسعار بمقدار النصف وأكثر. ثم إنه لو سلمنا بأن الولايات المتحدة وحلفاءها يستهدفون "قرص أذن" روسيا وإيران، فالأرجح أنهم لا يريدون أن تستفيد الصين وكوريا الجنوبية واليابان على حسابهم. فلا شك أن هبوط الأسعار بهذا الشكل يخفف عبء فاتورة استيراد الطاقة على اقتصادات آسيوية تنافس اقتصادات أميركا وأوروبا. والمثير ايضا ان تلك الاقتصادات، والصيني منها بخاصة، لم تشهد انعكاسا ايجابيا كبيرا لانخفاض أسعار النفط.
ربما ما لا يتعرض له كثيرون بالتحليل والتعليق هو أن الاقتصاد العالمي ككل لا يبشر بمستقبل جيد، وإن كان بعض الاقتصاديين يأخذون عامل ضعف النمو الاقتصادي العالمي في الاعتبار إلا أنه يأتي ضمن حزمة من العوامل الأخرى. وهذا صحيح، فالمضاربات في سوق الطاقة تجري في هامش لا يتجاوز عشرين في المئة من ارتفاع أو انخفاض السعر على أساس عوامل نفسية تتعلق بتوقعات الطلب المبنية على النمو الاقتصادي في الدول الصناعية الكبرى. أما أن يتضاعف الهامش (بهبوط الأسعار بنحو النصف) فهذا يتجاوز المضاربات على اساس العامل النفسي وحتى معادلة العرض والطلب ويمكن القول ايضا اي تدخلات محتملة من قبل منتجين ومصدرين. ولعل هذا ما جعل أغلب تقارير مؤسسات رئيسية معنية بالسوق النفطية ـ مثل أوبك ووكالة الطاقة الدولية ومنظمة التنمية واتعاون الاقتصادي ـ تخفض توقعاتها للطلب العالمي على النفط وبالتالي اسعاره في العام المقبل.
لعل اسعار النفط هي المؤشر الأكبر حتى الآن على حقيقة يتغافل عنها كثيرون ـ السياسيون عمدا والاقتصاديون عنجهية ـ وهي أن الأزمة المالية العالمية قبل أكثر من خمس سنوات كانت نتيجة اختلالات هيكلية في الاقتصاد العالمي لم يعالجها أحد. ولم تكن السياسات الحكومية في الدول الرئيسية وغيرها وعلى الصعيد العالمي سوى اجراءات "ترقيعية" مثل المسكنات للعلل الاقتصادية في النظام المالي والاقتصاد العالمي. تلك الحلول الجزئية الآنية ربما أدت إلى ما يشبه انتعاشا اقتصاديا ـ هو في الواقع معدلات نمو كافية للخروج من الركود والحيلولة دون الدخول في الكساد ـ لكنها لا يمكن أن تدوم طويلا. ويبدو أن الانتعاش قصير المد آخذ في الأفول وان العوامل الأساسية التي أدت إلى الأزمة السابقة تكاد تدخل بالعالم في أزمة جديدة قد تكون اشد وطأة وربما تقود إلى كساد مدمر.

د.أيمن مصطفى
كاتب صحفي عربي