د.جمال عبد العزيز أحمد*
لا نزال نتحدث عن تلك السمة التي تتسم بها لغتنا العربية الجميلة وهي أن الكلمات التي تبدأ فاؤها وعينها بحرف وحد، تجتمع في معناها، ودلالتها، ويمكن بكل سهولة أن تلمح الأصل الكبير الذي يضم شتاتها، ويجمع متناثرها.

وسنأخذ مثالًا أو اثنين للتدليل على تلك الظاهرة اللغوية، وهذه السمة التي تختص بها عربيتُنا، ولغةُ كتابِنا العزيز، التي نفتخر بأننا من أهلها وأتباعها.

المثال الأول عند اجتماع الهاء والواو (إذا وردتا فاء وعينا للكلمة)، فإنهما تدلان على معنى السقوط والانحدار إلى جانب، مثلًا يقال:(هوى من الجبل) أي: سقط وانحدر،و(هَوَتِ الدلوُ من البئر هَوِيًّا) بفتح الهاء، ونقول:(طاح في المِهواة، والهاوية) وهي ما بين الجبلين، ونقول:(وتهاوَوْا فيها): تساقطوا، و(هذه هُوَّةُ عميقة)، وفي القرآن الكريم:(فأمُّه هاوية)، ونقول:(جلست عنده هويًّا): أي: مليًّا، و(مضى هويٌّ من الليل)، وفي الكتاب الكريم:(كالذي استهوته الشياطينُ في الأرض حيرانَ ..)، ومن المجاز قولهم للجبان:(إنه الهواء) أيْ: خالي القلب من الجرأة، وقد تشبث أحمد شوقي بهذه الطرافة اللغوية، فقال:

فَاتقُوا اللهَ فِي قُلُوبِ الْعَذَارَى

فَالعَذَارَى قُلُوبُهُنَّ هَوَاءُ

كما يقال:(رجل أهوج): شجاع يرمي نفسه في المهالك، والمتالف، و(ناقة هوجاء) لسرعتها لا تتعهد موضع المناسم من الأرض، ونقول:(ريح هوجاء)، و(رياح هوجاء)، و(رياح هُوجٌ)، ونقول:(وهاد الرجل، وتهود وهود ابنه: جعله يهوديا، وهور البناء، فتهوَّر): أي تهدم، وهو ـ كما ترى ـ متفق في المعنى العام، والدلالة الكلية، وهو من خصائص لغتنا العربية الشريفة.

والمثال الثاني تلك الكلماتُ التي تبدأ بالميم والنون، فإنها تفيد معنى الإعطاء والمنع على الأغلب، فمنه قولنا:(منح فلان فلانًا شيئًا)، و(فلاح منَّاح)، أيْ: معطاء، كثير العطاء، ومنه:(ومنح الشيء، ومنه، وعنه)، ومنه:و(هو رجل منوع ومنَّاع) أي: يمنع خيره كثيرًا، ومنه الفعل (مَنَّ، يَمُنُّ، مَنًّا) أي: أعطى يُعطي عطاءً، ومنه (المنية)

وهي الموت، ومنع الحياة، و(المُنية واحدة المُنى) وهي العطايا، ومنه الفعل:(منأ) و(المنيئة)، وهي الجلد أول ما يدبغ عندما تعطيه المادة التي تجعله مدبوغًا، ويقال: (مانيتك) أي: كافأتك، أو أعطيتك مكافأة من المنى، و(مانوني): انتظروني حتى أدرك مُنْيَتِي، أو بغيتي، ويقال:(لأمنينك مَناوتَك) أيْ: لأجزينَّك جزاءك، ومنه:(المماناة)، وهي المماطلة، والمنع، ومنها:(مَنْجَنَهُ): أعطاه المنجنون الذي يُستَقى عليه، قال ابن السكيت: هي المَحَالة التي يُسْنَى عليها، ومنه قولهم:(منَّه السير): أي: أضعفه، وأعياه ومنعه قوته، و(رجل منين): أي: ضعيف، (كأن الدهر مَنَّهُ)، أي: ذهب بمُنَّتِه، أيْ: بقُوَّته، و(المَنُّ) القطع، ويقال النقصُ، ومنه قوله تعالى: (لهم أجر غير ممنون) أيْ: ممتد مُعْطًى غير مقطوع، ومن أسماء الله (المَنَّان)، أيْ: الكثير العطاء، والمنّ، و(امتن عليه مِنَّة): أعطاه، ثم ذكَّره بأُعطيته، ويقال: (المِنَّة تهدِم الصنيعة) أي: تمنع أثرها الطيب، ووقعها الحسن فهي تفيد المنع.

فقد رأينا أن الحرفين الأولين الميم والنون اللذين هما الفاء والعين في الميزان إذا تواردا في الكلمات كان معناهما واحدًا، وقد لمحتُ ذلك في عشرات البِنَى، والألفاظ، ورأيتُ أنها من سمات العربية، ومن خصائصها التي قد تغيبُ عن الكثير منا، وهي تفسر الحُزَمَ اللغوية ذاتَ الدلالات الواحدة من كلمات اللغة، وألفاظها، وهو أمر من الأهمية أن يقف عليه أهل اللغة، والمتخصصون، والمفسرون منهم على وجه الخصوص، حتى يضعوا أيدينا على السبب في اختيار القرآن الكريم للفظة ما دون غيرها من أخواتها، وذلك لتتماشى مع طبيعة الكلمات التي تبدأ فاؤها وعينها بالحرفين أنفسهما لتلك الكلمة، بحيث تلتقي معها في أصل الدلالة، والمعنى الكُلِّيِّ لها، كما رأينا في تلك السمة التي تتضمنها اللغة الحكيمة، وورد بها الكتاب العزيز، هذا، ونكشف عن خصيصة أخرى من خصائص لغتنا الجميلة في لقاء آخر، وصلى الله، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، وكل عام، وأنتم وأسركم بخيروتوفيق.

* جامعة القاهرة - كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية.

[email protected]