د.جمال عبد العزيز أحمد:
إن الإنسان الذي أَلَمَّ بقواعد اللغة، وآتاه الله شيئًا من علومها، لَيعجبُ أشدَّ العجب من جمال دلالتها، وكمال معناها، وجلال مبناها في سياقاتها، فتراه ليس كغيره، حيث يقف في الصلاة يستمع إلى التلاوة، فيبكي منتحبًا، ويرتعد ارتجافًا وفَرَقًا، ويذوبُ وجَلا وخوفًا، وتنسكب دموعه من جلال هذا القرآن، وكأنه يتنزل على مسامعه لأول مرة، ويعيش معه كأنه منعزل عمَّن حوله، يسبر أغوارَ معانيه، ويتقلب في بستان مرامِيه، ويتذوق جمال ثماره، ويَشَمُّ عبيرَ زهوره، ويعتبق أريجَ ألفاظه، وكلما تعمق في اللغة ذاق حلاوة القرآن، وأطلعه ربُّه على بساتينِ المعاني، ورياضِ الدلالاتِ، ودائمًا أقول:"إن الشيء إذا بذلت فيه جهدك،وأخلصت له ومنه قربك، أعطاك ما لم يعط غيرك، وحباك بما حرم منه سواك".
إننا على موعد مع حرف من حروف القرآن الكريم هو (الواو) التي وردت لصنف من الخلق، ولم ترد مع الصنف المضاد له، أو القسيم الآخر له، وكذلك سنتوقف مع ضمير من الضمائر جاء في رأينا مخالفا لما اعتاده الناس من نطق؛ لنرى في هذين النموذجين عظمة النص القرآني، ومتعة الدلالة، وجمال المعنى، وكمال المبنى،وتلك عادة الكتاب العزيز.
** أما عن الحرف، وهو الواو في قوله- جل جلاله-:"وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤوها (فتحت أبوابها) وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين، وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤوها (وفتحت أبوابها) وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين" سورة الزمر ٧٢-٧٣.
** فمع أهل النار من الكفار الفجار لم ترد تلك الواو قبل الفعل (فتحت)، ومع أهل الجنة من المؤمنين الأبرار الأطهار وردت هذه الواو (وفتحت)، ويتساءل القارئ والمستمع : لم جاءت الواو مع أهل الجنة في قوله-تعالى-:"حتى إذا جاؤوها (و) فتحت أبوابها..."،
ولم تأت هذه الواو مع أهل النار:" حتى إذا جاؤوها (فتحت) أبوابها"؟، وبم تسمى تلك الواو؟.
إن تلك الواو الرقيقة الغالية السامية ذكرت مع أهل الجنة؛ تكريما لهم؛ لأنها تفتح لهم وحدهم خصيصا عند وصولهم، تماما كما يفعلون في حياتنا الدنيا مع رئيس، أو ملك، أو سلطان، أو حاكم ما، عندما يستقبلونه، فترى الجميع يرتدي حللا سيراء، ويصطف اصطفاء مهيبا، ولا صوت، ولا حركة، في مشهد مهيب، يتمناه كل إنسان، وعندما يقترب موكبه تجد كل من أمر بشيء ما ينفذه في الحال من غير طلب منه، فقد تدرب عليه مرارا، وفعله كثيرا، وتكرارا، فيأتي العظيم، في موكبه الرهيب ، وعندما يصل تعزف له الموسيقات المدربة، ويحيونه بالصورة اللائقة المناسبة، ثم تكريما له، وتحية تفتح له بوابة القصر ، أو المتحف، أو المكان الذي سيحضر فيه،أو سيفتتحه ، فيكون هو وحده أول داخل له، حتى لو كان هذا المكان في صحراء، حيث يضعون له بوابات ضخمة، تفتح له وحده لحيظة دخوله؛ تكريما له؛ وكناية عن معزته، ومحبته، وسمو مكانته، وعلو منزلته، ويصطف الحراس، وكبراء القوم؛ ليكونوا في استقباله، والتشرف بلقائه، ورؤيته، والسلام عليه، وأنا أسميها واو التكريم (تسمية للشيء باسم هدفه، وغايته).
فتلك هي واو التكريم لأهل الجنة؛ حيث تكون الملائكة الأبرار بجمالهم، وكمالهم، وهيئاتهم التي خلقهم الله عليها، وهي أبهى ما تكون، في انتظارهم، وعندما يأتي الذين اتقوا ربهم إلى أبواب الجنان يرون الجلال، والكمال في انتظارهم، وحديث الملائكة ، وهم يسلمون عليهم:"سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار"، "سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين"، ثم يشهد الكون كلُّه فتحَ أبواب الجنان لهم في مشهد كريم يتمناه كلُّ إنسان، مشهد من جماله يبكي المؤمن على ما فاته من ضياع الوقت، وإهدار الزمن، مشهد لو تخيلتَه حق التخيل لما تركتَ الطاعة، ولو ساعةً، ولما غفلتَ عن ذكر ربك، والسجود بين يديه في الغدو، والروح، والمساء، والصباح، ليلا، ونهارا، سرا، وجِهارا.

فدخلت هذه (الواو) الجميلة هنا؛ لتبين مكانتهم، وعلو منزلتهم، وسمو مقامهم عند ربهم، فهم يعاملون معاملة الملوك، والسلاطين، والرؤساء، رغم أنهم كانوا في الحياة فقراء، غلابة، لا يسمع بهم أحد، ولا يأبه لهم أحد، ولا يكادون يعرفون إذا حضروا، وإذا غابوا لم يفتقدوا ، ومرت حياتهم فقيرة، لكن أطاعوا ربهم، وما أوقفهم عن عبادته فقرهم، ولا منعهم عن استدامة ذكره وشكره عوزهم وفاقتهم، فاستحقوا (الواو)، وعوملوا معاملة الكبار، وكانت الملائكة على جلال قدرهم في انتظارهم، وفي شرف استقبالهم...
.. وللموضوع بقية.

* كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية.

[email protected]