د جمال عبد العزيز أحمد:
** وعلى العكس من ذلك تماما من الكفار، فأهل النار، المترخصون في حياتهم، المتنكبون طريق ربهم، وسبيل رسولهم، لا واو معهم، فهذه النار بمجرد رؤيتهم من بعيد، تفتح أبوابها وحدها، ولا أحدَ في انتظارهم إلا لعتابهم وتأنيبهم، فهي تلتهمهم، وتأخذهم في أتونها الموَّار، لم تأت (الواو) معهم؛ وذلك كناية عن احتقارهم، وأنهم لا وزن لهم عند ربهم، فلا أحد ينتظرهم، إلا النارَ تلقاءَ وجوهِهم، قال- تعالى-: (إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا) رأتهم من مكان بعيد، فهي تعرفهم، ولا يغيبون عنها، تنتظرهم، ويسمعون لها تغيظا، وزفيرا؛ وفيه كناية عن غضبها منهم، ومن فعالهم الشائنة في دنياهم، وعدم نهوضهم بدينهم، وقيامهم طاعة ربهم، وعيشهم كالأنعام، بل هم أضل سبيلا، فلا (واو)، ولا انتظار، ولا ملائكة إلا لتقريعهم، وسؤالهم باحتقار، وتبكيتهم، وهم يضربون وجوههم، وأدبارهم، باستمرار، فإذا أقبلوا ضربوهم على وجوههم، فإذا أثَّر الضرب جَرُوا، فزادوهم ضربًا على أدبارهم، في مشهد مَهِين لهم، فهم مضروبون: قُبُلا ودُبُرا، وجهًا وظهرا، وخَلْفًا.
والنار تفتح وحدها أبوابها ؛ فهي تكاد تميز (تتقطع) من الغيظ عليهم، تريد إذابتهم فيها من أسرع مكان، وبأفظع أسلوب، وأخس مهانة، فهم أهونُ على الله من البعوض، أو الذباب.
والنحاة يسمون تلك (الواو) واو الثمانية، أي الواو التي تذكر مع رقم (ثمانية)، والجنات -كما نعلم- ثمان، ولها ثمانية أبواب،فذكرت لذلك الواو- في رأيهم-، ولم تذكر مع النار؛ لأنها سبعة أبواب، كما قال-تعالى:(لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم).
واقرأ كذلك قوله-تعالى-:" إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما"سورة الأحزاب ٣٥.
تجد الواو قبل الوصف الثامن.
واقرأ كذلك قوله - جل شأنه-:"عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكم مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا"سورة التحريم:٥ ، فالواو جاءت كذلك قبل الوصف الثامن في الآية الكريمة.
واقرأ كذلك قوله- سبحانه -:" التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين" سورة التوبة ١١٢. فتجد كذلك الواو قد وردتْ قبل الصفة الثامنة، بحيث تصحُّ لهم تسميتُها بواو الثمانية.
وهكذا فهي - كما ورد عن بعض النحاة - واو الثمانية ؛ لكونها ترد قبل العدد، أو الصفة الثامنة في كل مرة تأتي فيها تلك الواو، على أن نحاة آخرين أنكروا وجود واو الثمانية.
فهما رأيان في كتب النحو، والتفسير.

** وأما عن المسألة الثانية، وهي هاء ضمير الغيبة، وضَمَّتِهِ، كما في قوله- تعالى-:"قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا" سورة الكهف :٦٣.
هاء الضمير، ضميرِ الغيبة، حيث ورد، فإنه في العادة والأصل يردُ مضمومًا، فالضم في هاء الضمير هو الأصل، ومجيء الشيء على أصله لا يسأل معه عن علة مجيئه على أصله، أما إذا خالف أصله فمن حقك أن تسأل عن علة مخالفته أصلَه، وهنا جاء الضمير مضمومًا على الأصل، والكسر في الضمير في نحو؛ (بِهِ، وعليْهِ) هو استثناء؛وذلك لوجود حرف جر قبله، أو وجود ياء ساكنة يناسبها الكسر فقط، فليس الأصل الكسر، إنما هو استثناء فقط، وقد نبَّه عليه علماء النحو، واقرأ إن شئت قوله - تعالى-:(لهُ ملك السموات والأرض)- (رضي الله عنهُم ورضوا عنهُ) - (فأنزلنا من السماء ماء فأسيقناكموهُ)- (فقد رأيتموهُ ...)- (فإن علمتوهُن مؤمنات....)، ونحوها، حيث جاءت كلها مضمومة على الأصل، وجاءت كذلك لشيء معنوي آخر، هو التمكين لسياق التجلة، والتعظيم، حيث إن السياق سياقُ تفخيم، وتبجيل، كما في نحو:"ومن أوفى بما عاهد عليهُ الله فسيؤتيه أجرًا عظيما) سورة الفتح: ١٠. ففيها تفخيم لاسم الجلالة من جانب، ومناسبة الإيفاء بالعهد مع الله، وهي قضية معظمة مفخمة في دين الله من جانب آخر، فالأمانة لها منزلة سُمْيَا، ومنزلة كُبْرَى في الإسلام.
وكذلك في قوله-عز وجل-: (وما أنسانيهُ إلا الشيطان...) حيث يعود الضمير على ما كلف بحمله الفتى الذي يخدم سيدنا موسى- عليه السلام-، وهو مأمور بحفظه، وهو الحوت الكبير، وكلف بحمل تلك الأمانة، والأمانة عظيمة، ومن نبي كريم، ففخمت الهاء؛ تعظيما لحق الأمانة، ومنزلتها، ولكونها جاءت من نبي، فناسب ذلك ضم الهاء.
وكذا في مطلع سورة إبراهيم" الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، الله......) حيث نقف في التلاوة القرآنية عند قوله- تعالى-: "الحميد"؛ لكونه رأس آية، ونبدأ باسم الجلالة:(الله الذي له ما في السموات وما في الأرض...)؛ لنعطيه مقامه من التعظيم، والتفخيم اللذين هما حق لله - جل جلاله-، وفي مواصلة التلاوة دون توقف ترقيق للاسم الكريم، كما أنه نهاية آية، والوقوف على رؤوس الآي من السنة، فنكون قد خالفنا الفضل، والكمال في قضية الوقف.
وجملة القول- كما ترى- أنه في مقام التفخيم والتكريم تضم الهاء، وفي غيره تنكسر؛ تحقيقا لمعناها، وسيرا نحو غاياتها التربوية، ودلالاتها الإيمانية.
** واقرأ كذلك مطلع إعراب سورة الفاتحة في كتاب "التبيان في إعراب القرآن" للعكبري في مبحث له بعنوان (فصل في هاء الضمير)، وذلك عند إعرابه لقوله- تعالى- في سورة الفاتحة: (صراط الذين أنعمت عليهم) في قراءة ضم الهاء في( عليهم).
حيث ناقش الإمام العكبري- رحمه الله - هذه القضية تفصيلا هنا،ك وهي قضية الهاء، وضمها ، وقد أعطيتك ملخصًا لما قاله الإمام العكبري- رحمه الله- في ذلك.
هذا، ونواصل الحديث حول خصائص اللغة العربية، والاستشهاد لها من القرآن الكريم، في لقاء آخر، وصلى الله، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، وكل عام أنتم بخير، وتوفيق.

كلية دار العلوم- جامعة القاهرة.
جمهورية مصر العربية.
[email protected]