د. جمال عبد العزيز أحمد:
من أهمِّ ما تتمتع به اللغةُ العربيةُ دقةُ اختيار البنية الصرفية، وحُسْنُ اللفظة القرآنية، واستعمالها بصورة رائعة في سياقها القرآني، بحيث تتلبس المعنى الذي سيقت له تلبسًا دقيقًا، يظهر في أبهى معانيه، وأدق مراميه، وأعلى مبانيه، فتراها مثلًا عند حدث التدمير، وهول الموقف، وسماع صوت الانهيار يشعرك بضخامة الصوت، وعنفوان الدك، وخطورة النسف، والتدمير.

ولنأخذ مثالًا على ذلك تلك البنية ذات الفعل الرباعي المضعف الواردة في قوله تعالى:(فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها، ولا يخاف عقباها) (الشمس ١٤ ـ ١٥)، فعندما تتأنَّى في فهمها، وتترك المجال لعقلك، وتوسع المجال فكرك، وتتفكر، وتتعمق في كلمة (دمدم) بكل طريق ممكن، تسمع من خلال اختيارها، ودقة وضعها في محلها، وسياقها كأنها قنابلُ تدوِّي هنا، وهناك، المرة بعد المرة:(دم دم دم دم)، أصوات ضخمة تتابع، وحروف صوتية عالية تتكرر، كأنها الدمدمة تدك كل مكان، وتنسف ما تراه، وتسوِّي بالأرض ـ في لحيظات ـ كلَّ مَنْ، وما أمامها، وتمحو كلَّ ما صادفتْه من أنعامٍ، وأناسيَّ، وحجرٍ، ومدرٍ، وحيوانٍ، وبشر، وزروع، وثمر، فهي بمثابة أسلحة للتدمير الشامل التي لا تُبقِي، ولا تذر، من بشر، أو حجر، وترى البيوت الشاهقة تتهاوى في لحظات، والأشجار تُقتَلَع في ثوانٍ معدوداتٍ، والسياراتُ تنحرف، متردية في هُوَّةٍ محترقةً تتقلبُ هنا وهناك، وتخبط في البيوتات المدمرة، وتسمع أصواتَ الارتطام، والقنابل تدوِّي في كلِّ مكان، لا تترك شيئًا واقفًا، ولا ماشيًا متحركًا، ولا طائرًا يطير إلا أخذتْه في أتونها، ومَارَ معها في مَوَرَانِهَا السريع، فورودُ البنية الصرفية على تلك الشاكلة من التشكيلة الصرفية، ومن تراكب الدال مع الميم، تشعرك بأن (دَمًا) يتناثر ويتطاير في كل مكان، ويملأ الحوائط، والأركان التي تندكُّ هي الأخرى، وكأنك تسمع أحدًا يرفع عقيرته بقوله:(دَمْ ـ دَمْ) أصوات أخيرة تنطلق بها الحناجر من هنا، وهناك، وهنالك، ثم تغيبُ تحت الرغام، كأنما إعصارٌ أتى على الأخضر، واليابس، وفي لحظات أنهى الحياة، والأحياء، وأراح الكونَ من أوساخه، وأدرانه، وآلامه، وأوجاعه، وانتهى الطغاة، والمتكبرون، وراحوا مع السيل غير مأسوف عليهم، ولم يَعُدْ لهم من أثر، فقد أدَّتِ البنيةُ الصرفية ذاتُ الأحرف المتكررة دورًا كبيرًا، وأسهمتْ إسهامًا واضحًا في بيان المراد، وإظهار الدلالة القرآنية التي يريد أن يتركَها فينا التعبيرُ القرآنيُّ حتى يحيا مَنْ حَيَّ عن بينة، ويهلِكَ من هلك عن بينة، فأي شخص مهما انتفش، وعلا، وتكبر، وطغا، ولم يستمع إلى تعاليم ربه، فتلك نهايتُه، وهذه عاقبته الكؤودُ التي تنتظره، إنها تسويةٌ كاملة بالأرض، ومحوٌ تامٌّ للحجر، والشجر، والبشر، ولنتذكر قدرة الله التي لا تُتَصَوَّرُ، وانتقامه الذي لا يُتَخَيَّلُ، جل الله في علاه، وعزَّ، وتقدَّس في أرضه وسماه، وتخيَّلِ المنظر الرهيبَ الرعيبَ لجثث تملأ الأرض متفحِّمةً، كأنها أكوام تراب محترق، ورائحة الأجساد تنبعث كريهًة من كل مكان، وتصاعُد أعمدةِ الدخان تملأ صفحة السماء، ولا صوتَ هناك، ولا حركة، الجميعُ قد مات، وراح ، وانتهى من الكفر كله، والطغيان، وانزاح، وتنفس الكونُ الصعداءَ، وارتاح، وقال:(بُعْدًا للقوم الظالمين)، فقد انتهى الظلم، وراح الظالمون، وأشرقت الشمس، وانتظر الكونُ أمر الله له من جديد، ليمضيَ وفق ما أراد الله من صلاح، وطاعة، وكمال، وخير، وليعلم الناس أن للكون ربًا مهيمنًا.

وفي قوله تعالى:(فمن يُرِد اللهُ أن يهديَه يشرح صدرَه للإسلام ومن يُرد أن يُضله يجعل صدره ضيّقًا حرجًا كأنما يصّعد في السماء كذلك يجعلُ اللهُ الرجسَ على الذين لا يؤمنون) (الأنعام ـ ١٢٥)، فقد وردت بنية (يصّعّد) بتشديد الصاد وتشديد العين على غير العادة، وبتلك الصعوبة في الأداء، والنطق، والتنقل من شدة إلى شدة، بحيث تضطرب معه أعضاء النطق، ويشعر الإنسان مع نطق الحرفين الحلقيين بصعوبة شديدة يحس معها بخروج الروح، وبضيق النفس، وتجد الصاد كأنما تأتي بها من أعماق غياهب البئر، والعين يكاد يلتصق فيها الحلق، وتنسد القصبة الهوائية، ويختنق التنفس، وكأن المرء ـ بصعوبة بالغة ـ يحاول أخذ بعض الهواء النقي، يملأ به صدره، ولكن الهواء (وهو هنا رمز الإيمان بالله) غير موجود، وكأن كل مكان للتنفس قد انسد تماما، وبالفعل فقد قرر العلماء أن الإنسان كلما علا في طبقات الجو قل الهواء بشكل ملحوظ حتى إنه ليأخذ شهقة الهواء بأصعب ما يكون، وتضيق مساحة الهواء جدا عليه، وتضيق عليه نفسه، وكأنه سيفقد حياته، فقد التقى معنى البنية الصرفية ونطقها الشديد الصعوبة مع سياقها العام الذي وردت من أجله، فاختيارها بهذا التشكيل الصوتي، وانتقاء تلك البنية بهذا الضبط، وذاك النطق، وهذا الأداء قد نهض أيما نهوض في رسم المعنى، وإظهار الدلالة التي يريدها القرآن الكريم، ولعل الصرفيين يفسرون لك أن أصل الفعل:(يصّعّدون) (يَتَصَعَّدُونَ) بوزن (يتَفعلون)، ثم سكنت التاء فصارت (يَتْصَعَّدُونَ)، ثم حدث إبدال للتاء الساكنة المهموسة بالصاد الساكنة المجهورة ليتتابع الجهر، ويتناسب التفخيم، ثم حدث إدغام واجب؛ لوجود حرفين من جنس واحد، وجاء الأول منهما مسكنًا، فبعد عدة تغييرات صرفية، وصوتية، تظهر معاناة الصاعد حقيقة، وصلت تلك الصيغة إلى ما هي عليه، بعد ثلاثة تغييرات، كأنها ثلاث حيل لإيجاد شيءٍ من الهواء لملء الرئة به، ولكنْ دون جدوى، فقد أسهم التغيير الصرفي، وضغط الصوت، وتضعيفه في رسم دلالة اللفظ القرآني، وبيان وإيضاح سياقه العام الذي يتناغم مع دلالته القرآنية التي يريد الكتابُ العزيزُ نقلها، وأن يفيد المرء منها في مسيرة حياته، ووفق مطلوب ربه، حتى يتنكب طريق الكفار، والضلال، ويمضي إلى طريق الإيمان، وحياة الأبرار، لئلا يعرض نفسه لهذا الهلاك المحقق، وهذا الموتِ المؤكد، وحاول أن تقرأ هذا المعنى الدقيق للآية مرة ثانية بعد هذ التوضيح لما حدث في البنية الصرفية للكلمة، وتَذَكَّرْ تغييراتها الصرفية المتتابعة حتى وصلتْ إلى ما هي عليه من هيئة إملائية، ونطق صعب، يقول الله تعالى كما سلف:(فمن يُرِد اللهُ أن يهديه يشرح صدرَه للإسلام ومن يُرِد أن يُضله يجعل صدره ضيّقًا حرجًا كأنما يصّعّد في السماء كذلك يجعل اللهُ الرجسَ على الذين لا يؤمنون).

فالضلال هلاك، ودمار، يجعل صدر صاحبِه ضيّقًا، لا يتنفسُ بشكل صحيح معتاد، وكأنه يَصَّعَّد في طبقات الجو العليا بعيدًا عن بستان الهدى، وما فيه من رياض الورود، وشذا العبير، ومسك الرحمة، إلى حيث الكفر خراب الكفر، وظلام الشرك، ومتاهة البعد عن الله، حيث لا توجد نسمةُ هواء عليل، يجد الصدرُ بِرِئَتَيْهِ معها ما يَبُلُّ الريق، أو يضخُّ للقلب سبب حياته، وهو الهدى، أو الهواء النقي المتجدد، ونواصل الحديث حول دقة اختيار البنية الصرفية، وأثر ذلك في الدلالة القرآنية في لقاء متجدد، وصلى الله، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم أجمعين، وكل عام، وأنتم بخير، وتوفيق.

* جامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية

drgamal2020@ hotmail.com