د.جمال عبد العزيز أحمد:
كلما دخلت العشر الأواخر من رمضان في كل عام، تهلل المسلمون، واستقبلوها أحسن استقبال، وبوعي، وإدراك، وحصافة، وفهم، وتكريم، وتقدير، ويعبدون ربهم فيها بكل نشاط وهمة، كأنما نشطوا من عقال، واستعدوا وشمَّروا عن ساعد الجد، والاجتهاد في العمل، بسبب ما فيها من ليلة القدر التي هي عند الله خير من ألف شهر(ليس فيها ليلة قدر)، وثمَّنُوا وقتَها، وعرفوا لها حقَّها، وقاموا بها حقَّ قيامها، وهناك مَنْ أعرفهم ممَّن يقسِّمون ساعاتها بين ابتهال، ودعاء، وتسبيح، ورجاء، وتلاوة، ونداء، وسجود، وبكاء، يظلون في طاعة، وذكر، وبتهال لله، وشكر حتى يطلع الفجر، ويطمئن منهم القلبُ على أنهم قد أدرجت أسماؤهم في أهلها، وكُتِبُوا في أصحابها، ونتناول اليوم سورة القدر، التي أقسم الله بها في سورة الدخان حيث قال عز وجل:(حـم، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ).

نعيش في بلاغتها، وجمال بيانها، وجلال نورها، سائلين الله أن يبلَّغنا جميعًا ليلة القدر، وأن يجعل لنا فيها أوفى الحظ، والنصيب، والمنزلة، وسمو القدر.

يقول الله تعالى:(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (القدر 1 ـ 5).

هذه السورة فيها عدة جوانب بلاغية رائعة، وبيان جميل، وكل جانب له دلالاته التربوية، وبيانه، وطبيعة بلاغته، وجمال عبارته، وكمال جملته وصياغته.

وأول تلك الجوانب البلاغية أنها جميعًا جمل اسمية، ومعنى أنها جمل اسمية أن لها ثوابتَها الأزليةَ التي لا تتغير، وأحكامَها القائمةَ المستمرةَ المتواصلةَ التي لا تتبدل، ولا تتحول، أُعَدِّدُ تلك الجمل الاسمية العشر، كالآتي:

الأولى:(إنا أنزلناه في ليلة القدر) هي جملة اسمية، ودخلتها (إنَّ) المؤكِّدة، والأصل:(نحن أنزلنا القرآن في ليلة القدر)، فلما دخلتها (إنَّ) تحوَّل الضمير (نحن) إلى ضمير النصب المتصل:(نا)، فصار (إنَّا)، والجملة الثانية:(وما أدراك ما ليلة القدر)، والجملة الثالثة:(ما ليلة القدر)، والجملة الرابعة:(ليلة القدر خير من ألف شهر)، والجملة الخامسة:(ليلة القدر تنزل الملائكة والروح فيها)، والجملة السادسة:(والروح فيها)، والجملة السابعة:(من كل أمر سلام) والجملة الثامنة:(سلام) أي:(هي سلام)، والجملة التاسعة:(سلام هي)، والجملة العاشرة:(هي حتى مطلع الفجر)، فتلك عشر جمل اسمية، كلُّ واحدة منها لها دلالتها، ومعناها المستمر، ومرماها المتواصل على مدى الحياة حتى نلقى الله، وفيها كذلك راحة للنفس، وسعادة للذات، وانتشاء للروح، وهي أيضا كناية عن شرف الليلة، وكمالها، وجمالها، وبهائها، وجلالها، كما أن فيها طمأنينة للعابدين، الخاشعين، المتبتلين، الذين أتوا وكلهم أمل في الله ألا يحرمهم خيرها، وألا يمنعهم كمالها، وأن يَمُنَّ عليهم بإدخالهم في أهلها، وجعلهم من أبنائها.

والثانية من جوانب البلاغة: أن ألفاظها معظمها نور في نور، فعندك كلمات مثل:(القدر ـ خير ـ الملائكة ـ الروح ـ ربهم ـ سلام ـ مطلع الفجر) حقًّا، إنها كلمات تبعث النورَ، وتُحِلُّ السرور، وتُشِيع الحبور في أركان المعمورة.

وثالثها: أن الله تعالى الذي تولَّى الحديث عنها بذاته العلية،وربوبيته الحانية،وبأسلوب التوكيد فقال ـ جلَّ جلاله:(إنا أنزلناه في ليلة القدر)، وفي ذلك كناية عن عظمتها، وسمو مكانتها، وجليل شأنها، وكبير خطرها، ثم إنَّ السورة تبدأ بالتوكيد (أسلوب التوكيد)، وأداته (إنَّ) المدغمة في نون العظمة، والله هنا لم يقل: (إني) كما قال في آيات أُخَرَ:(إني أنا ربك فاخلع نعليك)، أو كما قال:(إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني)، وإنما قال:(إنّا)، وفي هذا تأكيد على منزلتها، وجلال قدرها؛ لكونه تكلم بنون العظمة إيذانا بعظمتها، وكمال مكانتها، ثم إن الفعل الماضي (أنزلنا) يدل على الراحة التامة في أن الخير كله قد نزل من الله لعباده، وانتهى نزوله، والفاعل هنا أكد عليه ثانية:(نا) الذي يعود على الله تأكيدًا لعظمتها، وترسيخًا لمكانتها، وبيانًا آثارها في القلوب، والهاء في (أنزلناه) ضمير يعود على ليلة القدر، مع أنه لم يتقدم لها ذكر في السورة من قبل، حتى يصح عود الضمير على متقدم ظاهر ـ كما هو الحال في عود الضمير في اللغة العربية ـ وفي ذلك معنًى سامٍ، ودلالةٌ عميقةُ: أنها في بال كلِّ مسلم لا تغيب عنه، وهي نصب عين المؤمن لا تذهب منه، ولا يحتاج إلى تقريرها، وسماع اسمها، أو تذكيره بها، كما أن الضمير هنا يَشِي بأن القرآن من أوله إلى آخره لُحمةٌ واحدةٌ، يفسِّر أوله آخره، ويميل آخره بحنوٍّ على أوله، فإذا نظرتَ علام يعود الضميرُ في:(أنزلناه) ما وجدته في السورة، مع أن اللغة توجب أن يعود الضمير على اسم ظاهر متقدم، مثلًا نقول:(جاء زيد وهو مبتسم)، أو (حضر عمرو وهو يسرع)، وهنا لا يوجد اسم ظاهر في أول السورة حتى يعود إليه الضمير، وإذا رُحْتُ تفتِّش عنه ذهبتَ أولا إلى سورة الدخان، فوجدت (إنّا أنزلناه في ليلة مباركة)، فلا يزال الضمير يبحث عن عود له، وينقِّب عن اسمه الظاهر، وتظل تقرأ عشراتِ السور قبله حتى تصل إلى أول سورة بعد الفاتحة، وهي سورة البقرة، فتجد الاسم الظاهر فاتحًا ذراعيْه، يقول:(أنا الذي يعود إليه الضمير)، حيث تقرأ قوله تعالى:(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة ـ 185)، فتعلم أن القرآن مترابط، محكمٌ أشد ما يكون الإحكام، فيه الحبك كل الحبك، وفيه السبك كل السبك، وأنه كالكلمة الواحدة، يعود أوله على آخره، ويحنو آخره على أوله، فهو في لسان المؤمن طوال الوقت في ذهابه وعودته، حله وترحاله، ونومه ويقظته، وسفره وإقامته، غضبه وهدوئه، فرحه وحزنه، صمته وحديثه، معه أبدًا، ودائمًا.

ورابعها: استعمال كلمة (في)، وهو حرف جر يفيد الظرفية، ويعني أن تَنَزُّلَ القرآنِ قد استغرق الليلة كلها، وملأ الزمن كله نورًا، وتنزُّلًا، وفيه انسياح في كل لحظات الليلة المباركة، واستعمال:(ليلة) فيه الهدوء، والجلال، والكمال، والجمال، حيث تجد صفحة السماء صافية، ترى فيها النور نقيًّا، أبيضَ، ناصعًا يتناغم مع جمال، وجلال، وبهاء القرآن الكريم، وقد جاء تركيب:(ليلة القدر ثلاث مرات) ليدل في كل مرة على معنى جميل، وكرم رب جليل، ويتكرر؛ ليعمق معنى القدر، وجلال الرفعة، وسمو المكانة لتلك الليلة، فالمرء يكرر ما يحب، فما بالك بالرب المتفضل الكريم، القادر، القدير، المقتدر، فإعادتها دليلٌ مكانتها، وتكرارها برهان على عزتها، وهي (ليلة القدر) تسعة أحرف، فإذا ضربتها في ثلاث أخرجت لك الليلة الموعودة، وهي ليلة السابع والعشرين، هذا دليل، ودليل آخر أن كلمة:(هي) في قوله تعالى:(سلام هي) تأتي، ورقمها في السورة الكلمة السابعة والعشرين، كأن القارئ لها عندما يصل، باحثًا عنها، محتارًا عن تحديدها قالت له:(هي هي) أي: هي رقم سبعة وعشرين، فتركيب (ليلة القدر)، ورقم كلمة (هي) في السورة دليلان يشيان بكونها ليلة السابع والعشرين، وفي ذلك كلام طويل للعلماء، وخلاصته أنها تلك الليلة السابعة والعشرين، لكونها ليلة وترية من جانب، وأن الرسول والصحابة يؤكدون على ذلك، ويقيمونها حريصين عليها كل الحرص، لا يفوِّتونها.

.. وللحديث بقية.

* كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية

[email protected]