د.جمال عبد العزيز أحمد:
وخامسها: قوله تعالى الذي جاء تفخيما لها، وتعظيما لشأنها ذكرها بالاستفهام التخيمي هو:(وما أدراك ما ليلة القدر؟!) فجاء الحديث عنها بالاستفهام المراد به التفخيم، والتبجيل، والتعظيم، وبيان الرفعة، وكمال المنزلة، أيْ أيُّ شيء أدراك قيمة تلك الليلة؟!، ومن بوسعه ـ غير ربها ـ أن يبيِّن عظمتَها، وعظيمِ مكانتها؟!، فالبشر جميعا لا يدركون كنهَها، وكمالها، فتولَّى ربُّها الإبانة عنها، والحديثَ عن كمال منزلتها، وجمال حظها، ورفعتها.

وسادسها: أن الله تعالى هو الذي بَيَّنَ بذاته العلية ماهيتها، وطبيعتها، وفضلها، ومكانتها، فتحدث عنها بالجملة الاسمية، المفيدة للثبات والدوام، وبكل وضوح:(ليلة القدر خير من ألف شهر)، وكلمة (ألف) ليس المقصود منها العدد المعروف، فالعرب تذكر الألف، وتقصد به العدد المتناهي؛ لأنها لم تكن تعرف غيره، كما قال الله تعالى:(وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) (البقرة ـ 96)، فالألف هنا ليس مقصودًا به الأف المعروفة لأن المعنى يريد المرء أن يعيش طويلًا طويلًا، يعيش الآلاف من السنين المتتابعة، كما نقول لمن نرسل إليه خطابًا:(لك سلامي ألف ألف ألف ألف مرة)، وكان يمكنه أن يقول:(لك سلامي مليون، أو مليار مرة)، لكن العرب لم تكن تعرف إلا (الألف) فقط، ويقول:(وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) فالألف غايتُهم، ومن ثَمَّ ذكرها القرآنُ الكريم، مراعيًا لغتهم، وطريقة أمانيهم، واستعمالهم لها، واستخدام أفعل التفضيل:(خير)، أي هي أخير، وأكثر خيرية، وأفضل في خيريتها، وأحسن في منزلتها، وبُعْد مقامها من ألف شهر، فهو يزكي مكانتها، ويرفع من قدرها.

وسابعها: اليسرُ الحاصل في كلماتها: نطقًا ورسمًا، فالفعل:(تَنَزَّلُ) أصله (تتنزل) بتاءين اثنتين، وقد حُذِفَتْ التاء الأولى من مضارعه، تيسيرًا لها ولنطقها، وهو يَشِي ـ بشكل آخر ـ بيُسْرِ الليلة، وأنَّ كل ما فيها ميسَّر عند الله، ومسهَّل بإذن الله، و(الملائكة) جمع تكسير يفيد الكثرة، وهو كناية عن كثرتهم، وامتلاء الأرض بهم في تلك الليلة، وهم موكَّلون بالدعاء للمؤمنين،يرصدون المتعبدين في المساجد المعتكفين فيها، والمتعبدين في البيوت لظروفهم، أو ظروف بلادهم الصحية، فهم سيَّاحون في الأرض كلِّ الأرض يسلِّمون على الطائعين، العابدين، المتنسكين، ويدعون لكل من يقابلونهم بالرضا، والتوفيق، و(أل) في (الملائكة) جنسية، أيْ: جنس الملائكة، وكل أطيافهم، وأنواعهم، وهيئاتهم، ووظائفهم، فكلهم يتسابقون لتنفيذ أمر الله، في تلك الليلة من السنة، ينزلون مطمئنين، داعين لكلِّ مَنْ يرونه عابدًا، باكيًا، مسبِّحًا، مصليًا، خاشعًا، دامعا، طالبًا من الله القبول، راجيًا منه أن يتفضل عليه، ويُدخله في خيرها.

وثامنها: وهو جانب مهم من جوانب البلاغة، عطف الخاص على العام؛ بيانًا لشأن الخاص، فالروح هو جبريل ـ عليه السلام ـ وهو من الملائكة، وإن كان رئيسَهم، والمقدَّمَ منهم عند ربه:(وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى) (النجم 3 ـ 6)، فقد عطف (جبريل)، وهو الروح الأمين، وهو من الملائكة، على (الملائكة)، فكأنه ذُكِرَ مرتين لمكانته، وأنه تشريفٌ للمؤمنين بأن يُنَزِّل رئيسَ الملائكة بنفسه لهم ليسلِّم على كل عابد، ومعتكف، وطائع، كما يأتي مثلا مَلِكٌ، أو حاكمٌ، أو رئيسٌ بنفسه يسلِّم على الناس، ففيه تكريمٌ للناس، واعتدادٌ بهم، وبمكانتهم، وإكبارٌ لهم، وهو كناية عن التكريم، والتجلَّة، والتوقير، كما أن كلمة:(فيها) تدل على أنه جاب الأرض كلَّها حتى ظرفتْه فيها، فلم يَعُدْ يراه الرائي، كما تقول:(دخلت في المدينة، وسرت فيها) فأنت صرت بسيرك فيها مظروفًا فيها، لم يعد يراك مَنْ كان كنت منه قريبًا، فبعدت عنه كثيرًا، وصِرْتَ في آخر المدينة، وبينك وبينه مسافات، بل مئات الكيلو مترات، وهو يعني أنه جاب الأرض طولًا وعرضًا، وشمالًا وجنوبًا، شرف المؤمنين بالسلام عليهم.

وتاسعها: قوله تعالى:(بإذن ربهم) أيْ: بسبب إذن ربهم، فهم يتحركون بأوامر علوية، لا من ذواتِ أنفسهم، فالباء إما للسببية، أيْ بسبب الإذن الصادر لهم من ملك الملوك، وفيه تكريم للعابدين، المؤمنين في تلك الليلة، وإما أنها بمعنى المعية، أي نازلين مع إذن ربهم يشرِّفهم إذنه، ويصاحبهم أمره، ويواكبهم معيته، وتحيط بهم رحمته، وتشملهم مغفرته، وعتقه لهم من النار، وعهم بعنايته وقدرته، وتام رعايته،يعطيهم العافية والصحة ليعبدوه كثيرًا، وقوله:(من كل أمر) يعني أن الله تعالى أمرهم بتيسير كلِّ شأن من شؤون الناس، وكلِّ حال من أحوال العباد، وتنكير (أمر) يفيد الشمول، والعموم، والإحاطة، وكلمة (كلِّ) ترشح ذلك، وتقويه، وتؤكده، وتدفع إليه، فالليلة تقرَّر فيها مصالحُ العباد، ويكتب فيها كلُّ أمرهم عند ربهم، وهو بإذنه ميسرٌ، ميسر، (من كل أمر سلام) تنكير (سلام) يوضح شموله جميع أنواع السلام، أي: سلام في العبادة، وفي النفس، وفي الروح، سلام في الأسرة، وفي المجتمع، سلام في الفكر، والشعور، والإحساس، والطاعة، فهم في كل شأنهم سلام، بكل معاني السلامك النفسي، والروحي، والفكري، والعاطفي: الفردي، والجماعي.

وعاشرها: وآخرها تحديد وقتها، ومعرفة زمانها، وأنها محددة بطلوع الفجر، وسماع قول الحق:(الله أكبر، الله أكبر)، فمن أدرك فيها، ولو لحظة دخل في أسمائها، وكلٌّ منا على درجة طاعته، ووصوله في عبادته، فمنهم من يطيع ربه الليلة كلها: من ألفها إلى يائها، من أول أذان المغرب وحتى طلوع الفجر، ومنهم من يتأخر إلى ما بعد العشاء وصلاة القيام، يعود أولا إلى بيته، ثم يذهب إلى معتكفه في البلدان التي أُتِيحَ لها ذلك، ومنهم من يذهب إلى التهجد قبل الفجر بساعتين فقط، ومنهم من يذهب قبلها بدقائق، والله كريمٌ، لا يحرم أحدًا من خلقه، ويقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، ويغفر لمن جاءه، ولو متأخرا كمن يدرك الوقوف بعرفة ـ يوم عرفة ـ قبيل الفجر بلحظات، فيصح حجُّه، لكنه لم يدرك وقت الفضيلة، ولم يسعد بالطاعة طوال اليوم، لكنه لم يُحْرَمِ الحجَّ، وينطلق بعدها إلى مزدلفة، فيدخل في غمار الحجيج، ويدخل في معنى الحديث الشريف:(هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)، وهكذا في ليلة القدر ليلة اليسر، والأجر، والسماحة، والخير، و(مطلع) اسم زمان، أي زمن طلوع، أو وقت طلوع الفجر، و(الفجر) كناية عن انبلاج النهار، وبزوغ النور، وانجلاء الليلة، وظهور أصحابها، وبلوغهم مآربهم، وتحققيق مآلاتهم، كأنه انكشاف عن مكاناتهم، وطلوع نور قبولِهم، وامتنان ربِّهم عليهم، و(الفجر) دائما يشير إلى الخير، والسعة، والوضوح، والظهور، وفي تلك الليلة أخبر العلماء عن علاماتها كطلوع الشمس هادئة من غير شعاع، بمعنى أنه يمكنك أن تحملق عينيك فيها، فهي باردة، هادئة، حانية، ساجية، وأن القمر فيها يكون أظهر وأنور ما يكون، وأن أصوات الدِّيَكَةِ تكثر فيها، وأن نباح الكلاب، أو نهيق الحمير لا تسمعه مطلقا، وأن صفاء السماء يظهر واضحًا، حتى قال بعض التابعين:"كنت في البحر، وأحسستُ أنها ليلة القدر، فشربتُ من ماء البحر فرأيته عذبا سلسالا كأنني في النهر، فكلُّ شيءٍ يكون فيها خيرًا وسلامًا، ونورًا ووئاما، لأن الله تعالى يتجلى فيها على جميع خلقه، ويكفي أن من يقومها طاعةً لله وإيمانًا واحتسابًا فإنها تعدل عبادة ألف شهر، أي: ما يقارب أربعة وثمانين عامًا، وهو ـ لعمرو الحق ـ خير كثير، وعمرٌ امتنَّ الله به على المؤمنين، حتى قال بعض المفسرين:(إنها خير من ألف شهر ليس فيها ليلة قدر)، وهذا يعني أن مكانتها فوق التصور، ولا يحيط بها الخيالُ.

وأخيرًا، فقد تخلَّل تلك السورة المباركة عدة أساليب، منها أسلوب التوكيد، وأسلوب الاستفهام التفخيمي، وأسلوب التخفيف، وأسلوب التكرار، وأسلوب العطف، وأسلوب الحال، وأسلوب التفضيل، وأسلوب الحذف، وورد فيها أسلوب التعلق، فمن أول السورة إلى آخرها رأينا التعلقَ، وقد أحدث ربطًا كبيرًا بين آياتها.

* كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية

[email protected]